اختار حسين الواد أن يروي عن روائح المدينة، كما اختار أن يعنون روايته بما رواه فيها فكانت «روائح المدينة» (تونس: دار الجنوب، 2010م). وهذا يلفتنا إلى الروائح من حيث هي لغة، تجاوز المعنى اللساني والسيمولوجي في انحصارهما في الدلالات الصوتية والبصرية، ومن حيث هي وجود موضوعي، أي من حيث هي شكل ومحتوى، ودال ودلالة. فكل رائحة هي موضوع حسي تدركه حاسة الشم، مثلما يدرك البصر المرئيات أو يدرك السمع الأصوات، والرائحة تحيل كما تحيل العلامات الدلالية على دلالة، فتغدو أداة تدليل وتعبير وإفهام، بقدر ما تغدو موضوع استدلال وانفعال وفهم وقراءة وتأويل.
أما في معاجم اللغة العربية، فتلتقي الرائحة مع الريح والروح في مادة الاشتقاق، وتتبادل معها جوهر الدلالة التي تتضمن المدركات بحاسة الشم وتجاوزها إلى ما به تقوم قوة الكائن وحياته. ويرد في لسان العرب -مثلاً- أن الروح هي الريح وهي نسيم الهواء وكذلك نسيم كل شيء، ويستشهد بالحديث: هبت أرواح النصر، وبقولهم: الريح لآل فلان أي النصر والدَّولة، وكان لفلان ريح. وراح الشيء يَرِيْحُه إذا وجد ريحه. ويمضي إلى أن الريح قد يكون بمعنى الغلبة والقوة، ومنه قوله تعالى: «وتذهبَ ريحُكُم» والرائحة النسيم طيباً كان أو نتناً، ووجد ريح الشيء ورائحته بمعنى. ويرد أن الرُّوح نَفَسٌ يتنفسه الإنسان وهو جار في جميع الجسد، كما يرد: أن الرُّوح هو ما يقوم به الجسد وتكون به الحياة، وذلك مصحوب بأمثلة تصف هذا المعنى مادياً ومعنوياً.
وتبرز دلالة الرائحة، فيما تبرز، في صلة وثقى بالروح والمشاعر، فالعاطفة شمَّامة، ومرهفة تجاه الروائح، ولهذا تأخذ أوصاف الروائح صفات تعبيرية، تراوح بين الحب والبغض، والأنس والضجر، والانشراح والغم، والألفة والغرابة، والجمال والقبح... إلخ. كما تأخذ الرائحة دلالة الصلة بالزمن، فالرائحة دلالة تغيُّر، في وجودها وعدمها، وقدمها وحداثتها، وعمقها وسطحيتها، وكثرتها وقلتها، ونظافتها وصنانها، وشذاها وإنتانها. ويرتبط بذلك دلالات الروائح الحيوية، فالروائح تَنْتُج عن الوجود الحيوي البيولوجي الجسدي والاجتماعي، ولهذا تحمل، ضمن ما تحمل، دلالة اجتماعية ثقافية وحضارية، فالمدينة -من هذه الزاوية- غير القرية، والمجتمعات المتحضرة غير المتخلفة، والغابة ليست المكتبة. وهذا غير دلالتها الموضوعية والنوعية التي تميز شيئاً عن غيره فرائحة الورود مختلفة عن رائحة البارود، ورائحة السوق أو المصنع غير رائحة البيت أو الشارع.
لكن الرائحة في كل ذلك دلالة على حضور الذات وقربها مما تصفه بل على انغماسها فيه بما يجاوز أي إدراك دلالي آخر. وهنا تبدو الروائح وكأنها غير قابلة للحياد الموضوعي، فلا رائحة إلا وهي مقبولة أو منفرة، وزكية أو نتنة، وبين الطرفين ترتسم الرغبة في الإقبال على أحدهما والبعد عن الآخر، وبذلك نتصور أن لا رائحة بلا رغبة فيها أو عنها، وهذا هو معنى حضور الذات في دلالات الروائح، لأن الذات دلالة رغبة، وحين يفقد الكائن رغبته تجاه الأشياء أو عنها، يغدو بلا ذات. أما دلالة الرائحة على قرب الذات منها فواضحة في أداة إدراكها وهي حاسة الشم، التي تصل بأعماق الإنسان وباطنه، وكأن أصل اشتقاق الرائحة وهو «الروح» تنبيه على علاقتها بالجوهري والباطني والعميق.
وأعتقد أن اختيار حسين الواد أن يروي روائح المدينة متأت من وعي بسيمولوجيا الروائح، على ذلك النحو، أعني الوعي بدلالة الروائح على العلاقة الذاتية بالمدينة، وما تشف عنه الروائح من إدراك عميق وباطني لها، خصوصاً في الدلالة على التغير الذي تغدو الروائح دالاً جوهرياً من دواله يعبِّر عن اكتنازها بمعان زمنية. وتتصل هذه الرواية من هذه الوجهة بمحفز الرواية العربية الأكبر منذ ظهرت في العصر الحديث، وهو رواية التغير الاجتماعي والثقافي الذي تصارع المجتمعات العربية واقعها وظروفها في سبيل إنجازه، فما زالت تحلم ب»المدينة» بمعناها الدال على الحداثة، فتخطو وتتعثر، وتغدو الحداثة ذاتها مشكلاً أكثر منها حلاً، كما يغدو القديم موضع صراع بين نوستالجيا الشعور به وحتمية التخلي عنه.
ولذلك كانت المدينة المطلقة من قيد التعيين والتعريف المجاوز للعهد أو الجنس في العنوان، هي مدينة الراوي، في نسبتها في متن الرواية إلى ضميره المتكلم، والمستبد بالرواية في أكثرها، إلا قليلاً من الأقوال والمرويات والمقبوسات، التي يسندها الراوي نفسه إلى بعض شخصيات المدينة التي ترد غالباً بصفاتها دون أسماء. وأكثرهم وروداً المؤرخ الحزين، وفي الحواشي إحالات على بعض الكتب، توثق ما يورده الراوي منصَّصاً، مثل كتاب الشفاء لابن سينا، وكتابي الأذكياء والنساء لابن الجوزي وأسماء بعض الشعراء. أما المؤلف فقد اتخذ مكانه في الحواشي، معلناً عن ذلك، وعن انفصاله عن الراوي، ليقوم بدور الشارح والموثِّق، للمتن الروائي الذي تقوم علاقة المؤلف به من خلال ادعاء العثور عليه مخطوطاً، تلك الإستراتيجية السردية المألوفة في نماذج عديدة من الرواية العالمية والعربية، للإيهام بصدقية الرواية وانفصال المؤلف عنها، ولصنع دلالات إسقاطية آنية، وتوسيع دائرة الحضور والراهنية بالإحالة على تاريخ قديم. لكن المؤلف بدوره كان يسند المدينة إلى ضميره المتكلم مفرداً حيناً ومجموعاً أحياناً أخرى، بحيث تغدو المدينة موضوعاً مشترك النسبة بين الراوي والمؤلف والشخصيات، بل والقارئ الذي يذهب الإهداء إلى تشريكه في هذه النسبة حين يرد بالصيغة التالية: «من ليس له مدينة كمدينتي لا يصلح له هذا الكلام».
وهذا مؤدى العلاقة الذاتية بين فعل السرد وفاعله، وبين موضوعه وذاته، التي يغدو الانتساب إلى المدينة والتشارك فيها، تدليلاً عليها، في مسافة الاتصال بما تفرضه الروائح -كما ذكرنا أعلاه- وهي موضوع السرد من دلالة حضور الذات. كما تبدو الوجهة التاريخية في الرواية التي تقتضيها الروائح من حيث هي دلالة على التغير والزمن. ولكنه تاريخ يبدأ ولا ينتهي، فالرواية تنتهي ببَتْر بعد أربعة أسطر من بداية فصلها الأخير، متبوع بظهور المؤلف في المتن قائلاً: «يقف المخطوط عند هذا الحد، لكن الراوي الحفيد ذكر مرة أن لديه منها بقية» وهذا دلالة على أن حدث التغير ما زال قائماً ولما ينته بعد. ولا تنفصل دلالة عدم الاكتمال هذه، أعني بَتْر آخر الرواية والإعلان عن بقية منها، عن بنيتها القائمة على فصول يتوحد كل منها بموضوع روائح مستقل عن غيره، فالنتيجة هي تعداد لموضوعات مختلفة بشكل لا يَعِدُ بنهاية، ويبقى قابلاً للإضافة والاتساع والتراكم، وهي بنية تجد أصلها في لغة الرواية ذات التعداد للأوصاف والأشياء وتوسيعها ومراكمتها، وفي تتبع الرواية للسيرورة التاريخية التي تلد حقبة من أخرى، وتوالي زمناً بعد زمن.
وقد تألفت الرواية من 16 فصلاً، يربط بينها ما يسبقها من مقدمة موجزة، تضمنت الإشارة إلى امتياز المدينة بروائح، وتعجيب هذه الروائح، فهي «آية في الغرابة والعجب» وحسد الأجوار لأهلها المسبِّب لاستكثار الأجوار اسم المدينة فيها وزعمهم بأنها قرية. وهذا يعني الإبانة عن حافز الرواية ومبررها السردي، ومن ثم استهلالها بما يعقد مع القارئ العلاقة ويشده إليها، خصوصاً والمقدمة تنتهي بتوجه الراوي إلى القارئ، سائلاً: «فكيف وأنت الكيّسُ العاقل العدل المنصف الفطن ترضى لمدينتي أن يستكثر أجوارُنا اسم المدينة فيها ولها مثل هاتيك الروائح؟». فالتعجيب هنا للروائح هو ذريعة إغراء بالمتعة للقارئ، وحسد الأجوار هو باعث سؤال العدالة والإنصاف الذي لا ينفصل عن التعجيب في تحفيز القراءة وإثارة الإصغاء واستدعائه. ويهمنا هنا الصلة بين مدنية المدينة التي هي موضع نزاع مع الأجوار وبين الروائح، فكأن الحديث عن الروائح وروايتها دلالة إثبات لمدنية المدينة، بما تمتلكه الروائح من شهادة مادية وحسية، ومن دلالات تاريخية واجتماعية ثقافية وحضارية، فضلاً عن دلالتها على حضور الذات.
وتضيف الرواية إلى مقدمتها في الربط بين الفصول، العبارة المتشابهة في مطلع كل فصل: «أنا لا أتحدث عن...» وهي عبارة تكرر نفي الراوي أن يتحدث عن الروائح التي يختص بها كل فصل، لأسباب مختلفة ومتشابهة، فهي روائح منتشرة في بلاد الإسلام الواسعة، أو تنتشر في القرى المجاورة والمدن الصغيرة البعيدة. أو لأنه لا يليق بالراوي أن يفعل ذلك عن مدينته، أو لخوفه من غضب أهلها إن هتك لهم سراً أو عرَّى، عن غير قصد، فضيحة كانوا يسترونها عن أجوارهم. أو أنه لا يحب هذه الروائح ولا يحبها أهل مدينته، أو أنه لا ينشط للحديث عنها لأن أهلها نشطوا في نشرها فلم يفلحوا... إلخ ثم يسترسل في الحديث عنها. وهي عبارة تستدعي إصغاء القارئ، لأنها تضعه في موضع كاتم السر، وتعلن الشفافية والتعرية، وتعد بالفضح والهتك، وتجمع بين ما يؤلفها إليه وما يغرِّبها عنه، في وقت معا. وهكذا أصبحت الفصول متفرقة ومجتمعة، ومتعددة ومتحدة، لأنها تختلف آحاداً في موضوعاتها، وتتدفق جميعاً من لسان الراوي في إطار تلك الذرائع والحوافز التي رفعت الكُلفة بين الراوي والمتلقي، واستمدت من مبادئ المنظور الواقعي ومن سيكولوجيا إذاعة السر، ذلك التي وصف الجاحظ كتمانه قديماً بالكرب وأعاده إلى ما في طبع الإنسان من شهوة الإخبار والاستخبار.
أما الفصول ذاتها، وعلى رغم توحد كل منها بموضوع روائحه، فإنها تتشابه في التتبع التاريخي للروائح، وتَعَقُّب تغيُّرها في الزمن، وموازنتها، من خلال حقب متوالية، هي: دولة البايات (ولاة الدولة العثمانية)، فدولة الاستعمار والحماية، ثم دولة الاستقلال والسيادة، وأخيراً دولة العهد الجديد. أي تلك التسميات المعروفة لحقب التاريخ الحديث في تونس، البلد الذي تنتمي إليه الرواية، ولكنها فترات تاريخية متشابهة في العالم العربي كله، تقريباً، وإن اختلفت التسميات. وقد تذهب الرواية في بعضها إلى ما قبل أن صارت المدينة مدينة، ثم بعد أن صارت مدينة. وهذا المنظور التاريخي هو عامل ربط وتوحيد موضوعي تجتمع به أشتات الروائح وأنواعها، وقد نقول، بالقدر نفسه، إن الروائح عامل توحيد زمني وترابط تاريخي، تجتمع به الحقب المختلفة ويتوحد فيه الزمن كما تتوحد الروائح بلا فارق.
الرياض