لماذا تشكل السعودية حكومة أكثر منها دولة؟ ليس هو السؤال، لا لأن الجواب عليه تقدمه العلوم السياسية فقط بل لأن المعلومة التي يحملها هذا الاستفهام حاضرة في الطرح الاجتماعي، بينما الطرف الآخر من المعادلة يقول إن المجتمع السعودي أيضاً لا تكتمل فيه خصائص الشعب كمجتمع مدني لدولة مكتملة الأركان، فالسؤال إذن لماذا يغيب هذا الطرف عن الطرح في المسألة الاجتماعية؟
إن الأحداث الأخيرة في مصر أعطت دلالة واضحة على غيابه تماماً كما قدمت لنا إشارات مهمة عن مجتمعنا بأنه يشكل حالة جماهيرية أصيلة أكثر من تشكيله مواطنة ناضجة، والقول مرة أخرى إن التفاعل مع الثورة المصرية هو حالة وعي مدني، بينما الذي عشناه كسعوديين على الأخص الشباب منا كان يتعدى في كثير من أحواله مجرد التفاعل، فلقد شكلنا جمهوراً نموذجياً، إذ لم نكن نتعاطف مع المصريين فقط بل كنا نشعر أننا منهم، ولم نكن نتابع وننتظر اختياراتهم ونعطي رأينا عنها، بل كنا نقبل ونرفض نرضى ونغضب كما لو كان شأننا الوطني لا شأنهم، الشباب المصري انتفضوا لحقهم كمواطنين يسعون إلى ما يريدونه من دولتهم وما يرغبونه من تغيير في حكومتها، بينما كنا نحن منصرفين تماماً إلى شأنهم نعيش حالتهم بكامل انفعالاتنا وعواطفنا، نبدي حماسة شديدة ربما لم نعشها داخل دولتنا ولشأن سياسي خاص بنا، وبمقارنة سريعة بين غرق مدينة جدة والثورة المصرية يمكن أن نتلمس أكثر من فارق وعلى مستويين، الأول بين تفاعلنا نحن مع الحدثين الداخلي والخارجي، والمستوى الآخر بين تفاعل الشباب المصري معنا وتفاعلنا نحن معهم.
لا يغيب عن ذهن أحدنا أن غرق مدينة بالأمطار لا يعادل على مستوى الحماسة والانفعال تغيير نظام سياسي وإن تعادلت الخسائر في الأرواح، لكن أن يعادل غضبنا على غرق إحدى مدننا الغضب على حكومة دولة أخرى لم نعرف من أحوالها أكثر من اسم الرئيس هو ما يجب الوقوف عنده كثيراً، ألم تفقد جدة كثيراً من تفاعلنا معها بسبب التفاتتنا إلى مصر؟ ألم ننشغل بالحماس والتشجيع والتصفيق لأحداث الثورة عن استكمال الجهود التطوعية كحالة مدنية كانت ستنضج بشكل تام لو استمرينا في تطويرها وتدويرها؟ والحديث هنا ليس عن جهود العمل الميداني بل عن الانفعالات والآراء والتعبير عنها.
أما على المستوى الآخر من المقارنة فالاستفهامات عن لماذا لم يتفاعل الشباب المصري معنا في جدة مثلما تفاعلنا معهم في الثورة؟ لماذا لم ينصرفوا إلى شأننا وكأنه شأنهم الخاص؟ لماذا توقف تفاعلهم معنا على مجرد التعاطف الإنساني؟ لماذا أدرك غالب الشباب المصري أن انتماءهم القومي والديني والإقليمي لم يعد يشكل إلا حدودهم الخارجية؟ ألم يرددوا (تعيش مصر حرة مستقلة) بعد أن كانت قبل جيل (تعيش مصر حرة عربية)؟ ولماذا ننفعل وننشغل نحن بشؤون الآخرين، رفعنا العلم التركي تحية لأسطول الحرية و»شهدائه»، ورفعنا العلم التونسي تحية لثورة الياسمين و»الشهيد بوعزيزي»، ونرفع اليوم العلم المصري تحية لـ25 يناير و»شهداء التحرير»، فمن من الشباب التركي أو التونسي أو المصري رفع العلم السعودي تضامنا مع جدة «وضحاياها»؟!!
باسم الكرامة والحرية والعدالة تفاعلنا مع كل الأحداث، فكم صرف التونسيون مثلاً من ساعات يومهم في متابعة أحوال جدة وغرق سكانها؟! والسؤال يدور على البقية، طبعا ليس من المقبول أن نجير هذا التفاوت بيننا وبينهم إلى كوننا أكثر إيمانا بقضايا الإنسانية من الكل، لأننا اللحظة نعرف ترددنا في رفع العلم البحريني تحية «لشهداء اللؤلؤة» رغم أننا ندرك بأن دانة الخليج نافذتنا الحرة حقيقة لا مشهداً سينمائياً.
هل نستدرك أنفسنا وحقيقة معايشتنا لأحوال غيرنا؟ هل ندرك أننا لا نكتفي بشأننا بل نتعلق بشؤون الآخرين ونعيش عليها، وحين انصرفنا عن حالة التطوع بقيمتها المدنية إلى التشجيع والتصفيق للثورة المصرية، هل نتجرأ على القول بأن ثمة فراغاً في إحساسنا بالمواطنة، وهو ماجعلنا ننصرف عن أحداثنا الوطنية، فراغاً في الإحساس وربما التفكير أيضاً؟ فكرة المواطنة لم تحضر في تفكير كثير منا ومن حضرت معه لم تلح ومن ألحت عليه لم تتبلور، هذا الفراغ الذي يمكن أن نتنبه حاجته إلى أحداث طارئة وأخبار عاجلة غالباً لنتفاعل مع الوطن، ونلحظه في ذات المثال وهو غرق جدة الذي استشعرنا وقتها وطنيتنا وقدرتنا على تقديم شيئاً للوطن وبحالة مدنية ذات قيم متعددة، لكن لماذا تبدو وطنيتنا حالة طوارئ ينطفئ الإحساس بانطفائها؟ لماذا نحتاج الكوارث أو الأخطار والخسائر لنحس بها؟ ألهذا أيضاً نشكل جمهوراً لأحداث الآخرين؟ ألأننا عاطفيين أم انفعاليين، أو أننا فقط نريد أن ننفعل؟
Lamia.swm@gmail.com
الرياض