في مقابل ثلاثين عاما من الحد من حرية التعبير ظهر ميدان التحرير كقطعة حرة ونزيهة من الأرض تفتح قلبها وتصغي جيدا للمتظاهرين وتدفع سائر الأرض إلى ذلك. كنتيجة لهذا كان يموج ميدان التحرير بفن آدائي متواصل لاينقطع انتهى بالنصر الجميل ودموع المسالمين الأبطال. إن روح المقاومة والإحساس المتزايد بالإحباط كلاهما يمثلان طاقة هائلة للتعبير امتدت لتجمع ذلك الكم الهائل من مثقفي مصر وبصحبتهم وسائل تعبيرهم.. إن الفن الآدائي والتشكيلي والموسيقى والشعر والكوميديا الذين تجلوا في ميدان التحرير يمثلون العلامة الأولى على أن الثقافة تحتوي في داخلها وواقعيا- ليس نظريا فقط- على احد أكثر طرق التعبير السلمية عن الحقوق وأرقى أنواع التظاهرات السلمية وصولا.. وأن هذه الطريقة في التعبير بالذات تنبض بدم الشباب وزماننا اليوم حيث حق الحياة حق معمم للجميع لا لفئة واحدة متسلطة.
لقد نال الفن حريته بعد أعوام من التجميد لصالح التعابير التي لا تقول شيئا ولا تحرك ساكنا في العالم.. لقد نال الفن حريته بنيل الإنسان لحريته..وإذا كان لتويتر والفيس بوك دور البطولة ففي داخل ميدان التحرير كان الفن هو الآداة الأولى والأكثر طواعية ونبلا وتعبيرا.شاهدنا المعاصرة الفنية تتألق بلمعان مدهش..شعر ينطلق بصدق إحساس..موسيقى تترنم طوال الأيام..وفن معاصر غاية في التعبير يستخدم أكثر الأدوات زهدا للتعبير عن هدف فكري عال جدا في صدقه.. إن قيمة الأعمال الفنية الآدائية.. وتلك التي كتبت على الأرض مستخدمة اللغة نجحت في نقل مستوى الوعي الفني والثقافي إلى المستقبل بقوة حيث قيمة الفكر هي القيمة الأولى.. الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أن فرادة المثقف وهو يعبر بطريقته عن حق شعبه لهو دخوله النبيل في عاطفة الجماهير مستخدما أكثر الأدوات التصاقا بهويته والتي لصدقها بالضرورة ستحرك صدقا في الناس. إنها فرادته الأجمل.
قد يكون الفن المعاصر مندمجا بطبيعته ويريد الاقتراب فعلا من الناس لكنه في ميدان التحرير استخدم أقصى هذه الأهداف. بدأ بين الناس واندمج.. وربما لأجل ذلك تحديدا ولأن كل شخص هناك كان يرى في عين الآخرين عظمته الشخصية كان الجميع يشعر برقي ثقافته وبانتمائه للفن. لا أحد أقل منه وإن كان صعد في يوم ما بفعل الحداثة والسياسات ليكون أعلى من الناس فإنه في ميدان التحرير صنع سابقة للفن العربي في اندماج صريح وناجح في عاطفة الشعوب ونيل الحقوق وقدسية البساطة ورقيها، حين تقول مايعجز عنه المنظرون.
إن التظاهر من خلال الفن بكل السلمية التي تتجلى من خلاله وضعت مصر في عين العالم محققة أكبر علامة لقدرة الشعوب على الرغبة الحقيقية بالسلام.. رأينا أطفال رياض الأطفال يرسمون على الأرض وسط المتظاهرين.. رأينا الفنانين يفرغون مساحاتهم الصغيرة ليكتبوا تدويناتهم الجسدية ورأيناهم يجمعون كل الأدوات المعبرة من حولهم ليحولوها لمجسمات كتابية ينقلون فيها خلاصة رغباتهم. رابطة فناني الثورة التي نشأت بذرتها في وسط الميدان علقت في امتداد الجدران رسومها وكركاتيراتها في معارض ثابتة بقيت تكافح مع المتظاهرين وتلهمهم دون تعب. شجرة احتفال وقفت في وسط الميدان تحمل بدلا من أشكال الزينة صور الشهداء.. عروض فكاهية وأخرى راقصة ضخت دما فنيا ثوريا عاليا في وعي المتظاهرين بأنفسهم وبما يتجهون إليه. ترانيم جماعية.. شعارات دينية تمثل غاية أقصى الأهداف ترفع فوق الرؤوس جنبا إلى جنب.. ليصبح للرمز حضوره الأقصى في التعبير.. ذلك الذي جعل المشاهدين من كل العالم يقتفون الرموز وأين تظهر.. في الأعلى.. أو أمام الصورة.. قبل المصلين أم تحتهم.. في داخل زنجيل الدبابة أم مكتوبا عليها!.
لقد وجد الفوتوغرافيون في كل هذا فضاء انفتح فجأة على جنة الصورة. فبعيدا عن ضرورة التوثيق أصبحت لغة الفن حاضرة وبقوة في الصور يمكننا تمييزها كوجه آخر للنصر. وإن كان ولابد لنا من عقد مقارنة في شكل الفن الذي تحقق هنا للتاريخ فيمكننا أن ننظر في كارثة ككارثة جدة ونميز ماحدث بعد زوال هول الموقف.. لم ينبرِ ذلك الجهد الفوتوغرافي اللافت لملاحقة الحدث -بعد خفوته على الأقل- بل بقي الجهد فقط في إطار التوثيق وتوقف. من هذا المنطلق يمكننا اعتبار الجهد الفوتوغرافي العظيم الذي مازال يظهر حتى اليوم جهدا استثنائيا مارس وبوعي ثوري أخاذ اقتفاء أكثر الزوايا إيحاء ليصنع شكل التظاهرات الراقية في ذهن العالم أجمع.
كل شعب باستطاعته التعبير عن مطالبه من خلال ثقافته وطرق تعبيره الفنية..بشرط أن يندمج بقضيته وبحقه في التعبير وباقتناعه بكفاية أدواته البسيطة لفعل ذلك. الثقافة كتعبير عن الثورة تعتمد على الاعتقاد بأن الحق والفن جزءان مرتبطان بإنسانية المثقف لا يمكنه إطلاقا الانسلاخ عنها.
الرياض