هذه ترجمة لتحقيق استقصائي Investigative Report بقلم الصحفية شيرا بوس من صحيفة نيويورك تايمز:
التحقيق:
عندما قدمت شانا كيلي، وهي وكيلة أدبية في «وكالة وليام موريس للأدب» مخطوطة رواية كورتيس ستينفلد الأولى «الشيفرة» The Cipher إلى مجموعة هامة من أكبر ناشري الكتب عام 2003 كان لديها آمال عظيمة.
لقد اتصلت بأربعة وعشرين محرراً هاماً لدى دور النشر الكبرى، وطلبت من كل منهم تقديم عطاء لشراء هذه الرواية التي تعبّر عن عبور بطلتها الشابة إلى عصر البلوغ coming-of-age خلال وجودها في مدرسة داخلية. وبعد أسابيع قليلة، رد عليها معظم هؤلاء المحررين قائلين «لقد أحببنا الرواية كثيراً، ولكننا لسنا متأكدين من قدرتنا على بيع نسخ كثيرة لأننا لم نتعرّف على الطريقة المناسبة لترويجها» بل ربما في الغالب لكون موضوعها مستهلكاً وهذه مخاطرة كبرى في عالم النشر.
قالت الآنسة كيلي: «في النهاية دار راندوم هاوس كانت هي الدار الوحيدة التي قدمت عرضاً وأعطت للآنسة ستينفيلد 40 ألف دولار كمقدم».
راندم هاوس نشرت «الشيفرة» في 2005 بعد أن أعادت تسميتها بذكاء إلى عنوان مثير غامض هو «استعدادي» Prep بتوصية من محررها الأدبي المختص وهو اختصار لكلمة Preparatory التي تعني مدرسة ثانوية تعد الطلاب للجامعة، ودعمتها بحملة تسويقية وترويجية مبتكرة. ولكن الطبعة الأولى من النسخة الفاخرة (الهارد كوفر) hardcover كانت 13 ألف نسخة فقط، وهي لم تكن كافية لتعويض قيمة المقدم الذي دفع للمؤلفة.
«استعدادي» Prep تخطّت جميع التوقعات عندما وصلت إلى قائمة البست سيلر لجريدة نيويورك تايمز بعد شهر من صدور نسخة الهارد كوفر التي كان ثمنها 21.95 دولار. وقد باعت طبعة الهارد كوفر في النهاية 133 ألف نسخة حسب وكالة «نيلسن بوك سكان» التي ترصد 75% من مبيعات الكتب الأمريكية. والطبعة الشعبية ذات الغلاف اللين بيبرباك Paperback كذلك أصبحت بست سيلر وباعت حتى الآن 329 ألف نسخة. حقوق النشر العالمية تم بيعها كذلك إلى 29 لغة وعرضت فوراً شركة «بارامونت» الهوليوديية شراء الحقوق السينمائية.
الرواية وجدت دعماً كبيراً عن طريق الصحافة وحكايات الناس Anecdote المتناقلة في المقاهي والمجالس. ولكن هناك كتب عديدة تحظى باهتمام مماثل لكنها لا تنجح، فلماذا كانت «استعدادي» Prep ناجحة جداً؟
لكن ربما السؤال العكسي الأهم هو: ما الذي يجعل كتاباً لقي اهتماماً كبيراً عند وقت المزاد أن يفشل بجدارة في المكتبات؟ براين ديفيون، وهو محرر في وكالة أدبية معروفة يتساءل: «هل هو الغلاف؟ أم العنوان؟ أم الدعاية؟ أم التوقيت؟ لا نعلم!»
الجواب لا يعرفه أحد مطلقاً لأنّ «البست سيلر عملية تصادفية معظم الوقت» كما يقول وليام ستراشن كبير المحررين لدى دار «كارول آند كراف» للنشر وأضاف «لو كان لدي مفتاح هذا اللغز الأعظم لأصبحت ثرياً جداً لكن لا أحد يملك المفتاح».
مطاردة هذا المفتاح هي عملية ضخمة ومعقدة جداً في الصناعات الأخرى التي استخدمت تكنولوجيا جديدة للحصول على فهم أفضل لآراء زبائنهم. فمحطات التلفزة خلقت منتديات خاصة على الإنترنت لمعرفة ردود فعل المشاهدين ولاستخدام هذه المعلومات لوضع خطط برامج مستقبلية. صانعو الألعاب الإلكترونية يطلبون آراء المستعملين من خلال وسائل افتراضية عبر النت. شركات الطيران والفنادق طوّرت قواعد معلومات معقّدة عن العملاء.
الناشرون على عكس ما سبق بالكاد وضعوا مواقع على النت حيث، يمكن للقراء أحياناً طلب إعلانات عن العناوين المستقبلية الوشيكة والجديدة، ولكن المعلومات لا تتدفّق في الاتجاه الآخر أي من القراء إلى المحررين في دور النشر!!
«نحن نحتاج علاقة مباشرة مع قرائنا» كما قالت سوزان رابند، وهي محررة أدبية ومديرة تحرير سابقة في دار نشر كبرى. المدوّنون لديهم علاقات تفاعلية مع قرائهم أكثر من الناشرين وأضافت: «قبل «أمازون دوت كوم»، لم نكن نعرف حتى مجرد رأي الناس العاديين عن الكتب التي يقرؤونها».
معظم العاملين في صناعة الكتب يعتبرون ذائقة العميل لغزاً حتمياً غامضاً وجذاباً ومؤثراً تماماً مثل الدافع الغامض للوقوع في عشق شخص أو الإدمان على القمار بطريقة هوسية لا يمكن فهم كنهها ولا السيطرة عليهما. موظفو النشر هم في الأغلب خريجو فنون جميلة ويدخلون هذا المجال برواتب سنوية تبدأ بـ 30 ألف دولار تقريباً أي ما يعادل 2500 دولار شهرياً (أي تقريباً 10.000 ريال سعودي). وهذه الرواتب ليست مربوطة بأداء المبيعات. الناس الذين يحبون هذا العمل لا يفعلون ذلك من أجل المال، مما قد يشرح لماذا يعتبر هذا المجال تجارة سيئة كما قالت السيدة ستراشان.
يقول إيريك سيمونوف، وهو وكيل أدبي لدى وكالة «جون كلو آند نسبت» الأدبية «إنه كلما ناقش موضوع صناعة الكتب مع زملائه في الصناعات الأخرى يصيبهم الذهول، لأن صناعة الكتب فيها مخاطرة ضخمة جداً لكون هوامش الربح صغيرة ودورة العمل طويلة بصورة مرعبة وأيضاً بسبب عدم وجود بحوث تسويقية عميقة ودقيقة وموثوقة يعتمد عليها لخوض هذا العمل».
الناشرون يدخلون في العادة في مآزق لطحن الأرقام عند شراء الحقوق. وعند تقدير العوائد، يعتمد المحررون في الغالب على أرقام المبيعات السابقة للمؤلف أو أرقام للعناوين المشابهة. وبناءً على هذه الأرقام وبعض التحليلات التي تتم بصورة بدائية لأمور هامة مثل: شعبية بعض أنواع الكتب، وعن الجمهور المحتمل، وعن الأهمية المحتملة للموضوع، مع الأخذ في الاعتبار القوة الشرائية للناس وحالة الاقتصاد في البلد. ثم يقوم الناشرون بعمل توقعات غير مؤسسة جيداً لأرقام الأرباح والخسائر المستقبلية المتوقعة.
المقدم المالي المدفوع للمؤلف يعتمد في الغالب على عوائد السنة الأولى، وهو يمثل عادة 10-15% من حجم المبيعات المتوقعة للطبعة الفاخرة (الهارد كوفر). وهذا المقدم المدفوع يعتبر بمثابة دين على الناشر لأنه كلفة ثابتة، ولا يجب على المؤلف أن يعيده للناشر إذا كان هناك مبالغة خاطئة في تقدير العوائد والأرباح وهذه هي الحالة المعتادة لحسن حظ المؤلفين. ولكن عندما تتجاوز العوائد كثيراًً قيمة المقدم المدفوع، يحصل المؤلف على مبلغ إضافي من الناشر.
تقدير قيمة المقدم المدفوع للمؤلف مسبقاً يعتبر إتقانه مهمة شبه مستحيلة ويحتاج مهارة نادرة الوجود. فلا يوجد محررون مطلقاً يستطيعون الزعم بأنّ لديهم طريقة علمية دقيقة لمعرفة كم سيبيع الكتاب. بدلاً من ذلك، يؤكدون على أهمية دور «الحدس» ويقولون بينما تحدث خسائر وأرباح كبيرة غير متوقعة، فإنّ العملية تمضي بسلام في الغالب بناءً على الحدس البسيط غير العلمي، وهكذا تسير الأمور على ما يرام واعتماداً على الحظ غالباً.
لكن هذه النتائج ليست مثيرة لصناعة بلغت مجمل مبيعاتها 35 بليون دولار سنة 2005م. هوامش الأرباح تتأرجح في رقم مئوي من خانة واحدة (أي 1-9 %) في فئة ما يسمّى «الكتب التجارية» التي تبلغ حصتها 14 بليون دولار، والمقصود بالكتب التجارية: الشعبية أي غير المتخصصة أو غير المعقّدة وغير العميقة وغير العلمية والتي تهم عموم الناس خاصة البالغين والشباب، مع كون 70% تقريباً من العناوين تحت العلامة حمراء أي خسائر.
المبيعات للعناوين «التجارية» (خيالية وغير خيالية) نمت 5% في عام 2005 بالنسبة للسنة التي سبقتها. ولكن نسبة زيادة المبيعات من سنة إلى سنة يتوقع أن يهبط إلى أقل من 2% بحلول 2010 حسب بعض بحوث عن هذه الفئة من الكتب. هذه الصناعة تتبع أنماطاً معيّنة لمواصلة النمو، ولكن عندما يتعلق الأمر بشراء حقوق المخطوطات الجديدة، فإنّ الطرق لم تتغير كثيراًً منذ مئات السنين كما يقول آل غريكو بروفسور التسويق في جامعة فورد هام.
«إنها نفس الطريقة التي سارت عليها هذه الصناعة منذ 1640» كما يقول، أي عندما طبع 1700 نسخة من كتاب «سفر المزامير» الديني في المستعمرات الأمريكية: «لقد كانت مقامرة ولكن كان تخمينهم صائباً لأنهم باعوا جميع النسخ وهي في المطبعة. ومنذ ذاك الحين، كانت ولا زالت هذه الصناعة مغامرة تجارية خطيرة ومرعبة».
هناك «نموذج عمل» Business Model أي خطة عمل إستراتيجية تفصيلية لتنفيذ المشروع تساند عملية المخاطرة هذه. وكما قالت السيدة ستراشان: «البرق يضرب أحياناً!!».
ولهذا الحظ يحدث كذلك أحياناً لينتج عنه بست سيلر. وللحصول على المال، تعتمد هذه الصناعة على مبيعات الكتب العادية وكذلك على البست سيلر. وليس المقصود البست سيلر المؤكدة للمؤلفين المشهورين، لأنّ هؤلاء يكلفون كثيراًً لشراء الحقوق ولشروطهم الصعبة في التسويق، ولكن المقصود البست سيلرز «المفاجئة» وهذه الفئة تشمل كتباً مثل «استعدادي» Prep السابق ذكره و»يوميات المربية» Nanny Diaries The (التي تم شراء مخطوطته بـ 25 ألف دولار فقط وباعت أكثر من 4 ملايين نسخة!!)، وكتاب «مارلي وأنا» Marley and Me (الذي تم شراؤه بـ 200 ألف دولار وباع 2.5 مليون نسخة!!) وكتاب «السر» The Secret (الذي تم شراؤه بأقل من 250 ألف دولار وباع أكثر من 5.25 ملايين نسخة في أقل من ستة شهور!!).
«هذه هي الكتب التي نتمناها جميعاً ونصلي دائماً لنحصل عليها يوماً ما» كما تقول جوديث كر، صاحبة دار «أتريا بوكس» التي طبعت «السر» وهو كتاب مساعدة ذاتيه مثير.
وفور مشاهدة النسخة السينمائية من «السر» التي أنتجت قبل صدور الكتاب، توقعت الآنسة جوديث كر مبيعات الكتاب بمليون نسخة! وعندما سألناها: «ولكن على أي أساس؟؟». أجابت مبتسمة: «أوووه ... إنه مجرّد شعور!!» ووصفت هذا التوقع كوخزة جميلة وساحرة سرت عبر عمودها الفقري!!
جميع دور النشر الكبرى خسرت على مراهنات كبيرة. واحد من أعلى المبالغ التي دفعت ك «مقدم» للمؤلف كانت 8 ملايين دولار على رواية مقترحة لم تكتب بعد!! نشرت فيما بعد بعنوان «ثلاثة عشر قمراً» وهي الرواية الثانية لتشارلز فريزر، وهو مؤلف رواية «الجبل البارد» الشهيرة التي باعت مليوناً وستمائة ألف نسخة من الطبعة الفاخرة هارد كوفر.
راندم هاوس طبعت 750 ألف نسخة من «ثلاثة عشر قمراً» للنسخة الفاخرة هارد كوفر في أكتوبر. الرواية أصبحت بست سيلر ولكنها لم تبع سوى 240 ألف نسخة حتى الآن حسب إحصائيات «نيلسون بوك سكان» وهذه المبيعات المحدودة تقدر بأقل من مليون دولار فقط كعائد حسب شروط العقد.
الطبعة الشعبية بييرباك ستخرج الشهر المقبل مع تدني التوقعات والآمال بتجاوز مبيعات الهارد كوفر!!
نواصل الحلقة الثانية والأخيرة الأسبوع القادم بحول الله.
المغرب