Culture Magazine Thursday  30/12/2010 G Issue 327
أوراق
الخميس 24 ,محرم 1432   العدد  327
 
أبو دلامة أنموذجاً
زنادقة الخليفة
منصور بن عبد الله المشوح

كنا نظن أن الحملة التي نفذها السياسيون العباسيون ضد الزنادقة في القرن الثاني للهجرة كانت من أجل الحفاظ على هذا الدين، ومن أجل حمايته من عبث العابثين وكيد الكائدين، غير أن القارئ المتفحص والناقد المدقق سيجد أن ذلك لم يكن إلا ضرباً من ضروب الزيف والخداع واللعب التي كانت الشعوب العربية تُخدع بها، فنحن نعلم أن هناك عدداً من الشعراء والأدباء الزنادقة كانوا مقربين من الخلفاء، وكان الخلفاء أنفسهم يعطونهم من الهبات ما الله به عليم، مع العلم أنهم كانوا يعدون من مشاهير الزنادقة، ومع ذلك لم يقتلوا مثلما قُتل غيرهم، ولم يطردوا مثلما طُرد غيرهم، بل تم منحهم الود والثقة والمحبة مما تعجز عن وصفه هذه السطور، وخذ مثالاً على ذلك أبو دلامة (زند بن الجون الأسدي ت 161هـ) هذا الشاعر الذي يُعدّ أحد أبرز ندماء الخلفاء العباسيين، يقول عنه الأصفهاني بأنه كان: «رديء المذهب، وكان مرتكباً للمحارم، مضيعاً للفروض، مجاهراً بذلك، وكان يُعلم هذا منه ويُعرف به، فيُتجافى عنه لِلُطف محله». ويقول النويري: إن بني العباس كانوا يقدمون أبا دلامة ويفضلونه ويستطيبون مجلسه ونوادره.

تلك حقيقة فجّرها الأصفهاني حين اعتقد - ونحن معه في ذلك - في أن السبب الذي جعل الخلفاء يتغافلون عنه يكمن في تلك الروح الهزلية الظريفة التي كان يتمتع بها ذلك الرجل الذي يدعى أبو دلامة، فالظرف والهزل صفتان محببتان للخلفاء والسلاطين من دون شك، أولم يستشهد المأمون مرةً بهذا البيت، حين أعجبه أحد الظرفاء فقال مادحاً له:

أخو الجد إن جدَّ الرجال وشمروا

وذو باطلٍ إن شئت ألهاك باطله

من مواقف أبي دلامة:

كان أبو دلامة يسخر حتى من الخلفاء ومن عباداتهم كما تقول الكتب، وكانوا يتقبلون ذلك منه، ولا يعاقبونه، وهاك هذا الخبر مثالاً على ما أقول، يقول ابن المعتز في طبقات الشعراء: كان أبو العباس مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لحسن أدبه، وجودة شعره، وكثرة ملحه، ومعرفته بأخبار الناس وأيامهم، وكان أبو دلامة خليعاً ماجناً، وكان يهرب منه، ويأتي حانات الخمارين، فيشرب مع إخوانه. ويكره مجالس الخلفاء لما في ذلك من المشقة والتعب وشدة التوقي، كان أبودلامة يحب أن ينبسط ويتكلم، وكان لا يتهيأ له ذلك في مجلس الخلافة، ولذلك هرب، فعاتبه أبو العباس على ذلك وقال: ويحك، أراك تحيد عنا وعن مجالسنا، وتهرب منا. فليت شعري لم ذاك؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، ما الخير والشرف والعز والفضل إلا في مجالستك، والوقوف على أبوابكم، ولزوم خدمتكم، وإننا نكره مع ذلك أن تملونا، فَنَقبِضُ على أنفسِنا بعضَ القبضِ، ليكون أبقى لحالنا عندكم. قال أبو العباس: ما مللتك قطّ، وما ذاك كما ذكرت، ولكن قد اعتدت حانات الخمارين والخلعاء والمجان. ثم وكل به، وألزمه ألا يبرح حضرته، وكان يصلي معه الصلوات كلها، فأضر ذلك به. ففي ذلك يقول أبو دلامة:

ألم تعلمي أن الخليفة لزني

بمسجده والقصر، مالي وللقصر

أصلي به الأولى مع العصر دائباً

فويلي من الأولى وويلي من العصر

ويحبسني عن مجلس استلذه

أعلل فيه بالسماع وبالخمر

ووالله ما بي نية في صلاته

ولا البر والإحسان والخير من أمري

وما ضره والله يصلح أمره

لو أن ذنوب العالمين على ظهري

فلما سمع أبو العباس الأبيات قال: والله ما يفلح هذا أبداً « فذروه « وأصحابه! لاحظ هذه الجملة (ذروه) هذه الجملة التي لم نكن نعرفها في عهد خلفاء بني العباس الذين كانوا حازمين دائماً ضد مثل هذه التجاوزات، حيث لم يكونوا يعترفون إلا بالقتل، ولاسيما في مثل هذه الأحوال، ولسوف تجد في مقالة لاحقة - إن شاء الله - كيف أن بني العباس كانوا يؤولون بعض النصوص من أجل أن يظفروا بقتل أحد خصومهم، لكنهم في هذه الحالة لم يغضوا الطرف فقط بل أعموا أبصارهم.

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

- القصيم
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة