الثقافية - عطية الخبراني:
يُعدُّ توزيع الكتاب بكافة تنوعاته واختلافاته أحد أهم روافد حضور هذا المنتج في الساحة الثقافية والتأليفية على وجه العموم.
وتأتي مسألة التوزيع بعد مخاض طويل من التأليف إلى التدقيق إلى الطباعة ليكون هذا المنتج جاهزاً للوقوع بين يدي القارئ، ولكن مشاكل توزيع الكتاب الثقافي أصبحت ظاهرة للعيان بما لا يدع فرصة لتهوين المشكلة أو نفيها.
ومن أبرز تلك المشاكل هي مشاكل توزيع إصدارات الأندية الأدبية التي يقبع الكثير منها داخل مستودعات الأندية غير عابئين بالتعب والسهر الطويل الذي قضاه المؤلف ليوصل رسالته إلى القراء.
(الثقافية) فتحت هذا الملف الذي يراه الكثير شائكاً وهم إما مسؤول أو مؤلف أو ناشر.
يقول نائب رئيس تحرير دورية الآطام الثقافية الشاعر عيد الحجيلي: ثمّة خلل كبير في توزيع المنتج الأدبي بأشكاله كافة، وهي ظاهرة بارزة في المملكة التي لا توجد بها شركة واحدة تتولى توزيع الكتب باحترافية واقتدار، فالشركات الموجودة تعنى بتوزيع الصحف والمجلات غير الأدبية في المقام الأول وهي ليست مهيأة وليس لديها إمكانات لتوزيع الكتاب الأدبي الذي يُعدُّ لديها منتجاً سييء السمعة، ثقيل الوزن، طفيف الربحية، مع أن المشكلة تكمن في كيفية توزيعه.
وليس أدل على ذلك من نجاح معارض الكتب التي تقام لدينا والتي يحرص عليها الناشرون لربحيتها العالية.
أما الأندية الأدبية فبعضها لم يسع إلى توزيع مطبوعاته، وبعضها لم يجد من يقوم بتسويقها ويتولى توزيعها فاكتفت بمنح المؤلف المغلوب على أمره نصف الكمية المطبوعة أو ربعها ليتولى توزيعها أو ليصبح بصورة أدق، ساعي بريد إن كان حريصاً على إيصال كتابه إلى المهتمين والمعنيين.
ولكن ثمة انفراجة طفيفة حدثت مؤخرا، وذلك عبر اتفاقيات الطباعة المشتركة بين بعض الأندية الأدبية ودور نشر معروفة كما حدث في نادي الرياض وحائل ونادي المدينة المنورة، غير أن الظاهرة مازالت قائمة وهي بحاجة إلى حل جذري.
في حين يرى الكاتب والمستشار الثقافي محمد المنقري أن مشكلة توزيع مطبوعات الأندية تتلخص كما يرى في عناصر أبرزها تواضع كثير من الأعمال الصادرة عن الأندية أو توجهها نحو فئة محددة لا تشكل شريحة مهمة من قاعدة القراء، ومن المؤسف أن يوزع كتاب واحد من إصدارات المجلس الوطني للثقافة الكويتي أو من إصدارات دار الهلال المصرية أضعاف ما تطبعه وتوزعه الأندية المحلية مجتمعة.
ثم عدم الاهتمام بأصول نشر وطباعة الكتب حيث لا توجد قوائم معيارية للموضوعات، أو للشكل الفني والتصميم؛ ذلك أن النشر صناعة لها أصولها ومعاييرها وأدبياتها؛ وكثير من الأندية الأدبية لا يعي هذه المفاهيم ولا يؤمن بوجود صناعة احترافية في هذا المجال، وعدم الاهتمام بحفلات توقيع الكتب وتدشين الإصدارات والتعريف بها عبر ندوات خاصة، وإهمال الأندية الأدبية لمجلات مراجعات الكتب، وعدم وجود محررين مختصين لتقديم قراءات في المطبوعات وتقديمها لوسائل الإعلام، وعدم اهتمام الأندية بوسائل التسويق مثل الإعلان والإهداء إلى الصحافة وكتاب الزوايا المتخصصة، أو إرسال قوائم المطبوعات وبعض الإهداءات إلى المؤسسات التربوية والأكاديمية.
بالإضافة إلى إغفال الأندية لقضية التوزيع ويتمثل ذلك في عدم إيمانها بنشوء شركة توزيع مختصة لتوزيع مطبوعات داخلياً وخارجياً كما فعلت المؤسسات الصحفية عندما أنشأت شركة مشتركة للتوزيع فأوجدت بذلك حلاً حضارياً لقضايا توزيع الصحف المحلية.
ويواصل المنقري قائلاً: ومن الأسباب أيضاً تواضع الجهد الذي تقدمه الصحافة الثقافية في سبيل دعمها للكتاب الصادر عن الأندية الأدبية أو الكتاب المحلي بشكل عام نظراً لعدم وجود المحررين المختصين بمراجعات الكتب، ولتزايد وتيرة الصراع بين الصحافة والأندية الأدبية وإداراتها الأمر الذي جنى على بعض الإصدارات الجيدة.
ويختتم بسبب أخير هو تهميش الكتاب الصادر محلياً من قبل مؤسسات التربية والتعليم والتعليم العالي، إذ لا تقتني هذه القطاعات شيئاً من منتجات سوق الكتاب السعودي وإن اقتنت فإنه من باب أداء الواجب وليس وفق ما تقتضيه الحاجة المعرفية والوطنية التي توجب تعريف أبناء البلاد بإصدارات أدبائها ومفكريها.
أما نائب رئيس أدبي حائل القاص عبدالسلام الحميد فينحى بالموضوع منحى آخر حين يقول:
لا يختص الضعف في رأيي الخاص فقط بالتوزيع بل يلحق الضعف بوجه عام بكل ما يختص بعملية إنتاج الكتاب السعودي، بدءاً بعملية تقييم المادة موضوع النشر، فللأسف يحيط بالإنتاج الثقافي السعودي سلوكيات محبطة ومهينة لأي مثقف، فبعض الأندية الأدبية تعمل بنظام (شد لي وأقطع لك) بمعنى أطبع لي، فأطبع لك. والدليل على هذا أن بعض أعضاء مجالس إدارات الأندية يطبعون إنتاجهم في أندية أخرى، وبقليل من الملاحظة ستكتشف أن أعضاء مجلس إدارة النادي الذي طبع لهم إنتاجهم يطبعون لديهم رداً للمجاملة بالمثل.
والأدهى والأمر أن تجد نادياً يطبع لأعضاء مجلس إدارته بدءاً بالرئيس، مروراً بأعضاء مجلس الإدارة وانتهاء برئيسة وعضوات اللجنة النسائية، كذلك من المحزن ملاحظة نادٍ يطبع دراسات عن أعمال أعضاء مجلس الإدارة فهذه دراسة في شعر فلان، وتلك دراسة في المنجز القصصي لدى علان، والمبدعون الشباب والمثقفون الحقيقيون هم الخاسر الأكبر حيث ترفض أعمالهم مرة بحجة عدم نضوج التجربة، أو لأسباب واهية، وأحياناً لأسباب مضحكة، أو بدون أسباب على الإطلاق.
ويتابع الحميد: لا يمكن حل مثل هذه المعضلة في الإطار الحالي إذ لا بد من إيجاد آلية علمية لتقييم الموضوعات المطروحة للنشر، بحيث تستبعد الهوى، أو تحجمه على الأقل في أقل حجم ممكن من خلال نماذج تقييم علمية، تساعد في تحييد عناصر الواسطة والهوى في التقييم، ومن بعد ذلك يمكن متابعة القضايا المختلفة الأخرى من خلال تطوير نظم النشر، ووضع آليات عملية وعلمية للطباعة والتوزيع.
ويرى أنه قد يكون من المناسب إنشاء هيئة سعودية عليا للكتاب، يشارك في عضوية لجانها مبدعون، ونقاد وأكاديميون، يعملون من خلال نظام وآلية علمية تفرز الأعمال، وتحدد الصالح منها للنشر، ومن ثم تحيل طباعتها إلى مؤسسات طباعة محترمة عبّر محترفين، بعد ذلك يأتي توزيعها بشكل احترافي من خلال مؤسسة توزيع متخصصة تقوم بتوزيع المنتج الثقافي السعودي محلياً وخارجياً.
كذلك يجب العمل على اختيار نماذج من الثقافة والإبداع السعوديين وترجمتها إلى اللغات الأجنبية، واختيار أعمال من الثقافات والآداب والعلوم العالمية وترجمتها إلى العربية.
وبهذا نضمن حضوراً حقيقياً للمبدع السعودي في ساحة الإبداع الثقافي الإنساني على مستوى العالم كلّه، فليس من العدل أن تطبع منشورات ناد ما بالاشتراك مع إحدى دور النشر المعروفة ذات الحضور في كل المعارض الدولية، ومطبوعات نادٍ آخر تطبع في مطبعة مجهولة، ومصيرها مستودعات النادي ومكتبة المبدع نفسه.
ومن النماذج التي عانت من مسائل توزيع منتجها الإبداعي الشاعر إبراهيم زولي الذي يقول: إشكالية توزيع الكتاب لدينا يعرفها القاصي والداني وصارت من خصوصيّة المثقف السعودي فهو المؤلف والموزّع والوكيل القانوني إذا أراد لمنجزه الإبداعي أن يسوّق بشكل معقول.
يذهب أكثر كتابنا إلى دور نشر عربية حتى ولو لم يكن الرقيب سبباً، حيث تجدهم أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام شعارهم (اعط الخبز خبّازه ولو أكل نصفه) وهم قريبون من ذلك يقال لهم ألف نسخة فلا يرون إلا مئة أو مئتين وما تبقى لا يعلمه إلا الراسخون في دور النشر العربية الذين تحوّلوا إلى ورّاقين وليس مثقفين يسعون لتأسيس وعي مختلف.
أما في الداخل وأعني الأندية الأدبية فلي ثلاث تجارب اثنتان منها تمثّلان حالة مضيئة تستحقّ الاحترام هما نادي حائل ونادي الشرقية.
فنادي حائل له تعاون مميّز مع دار الانتشار العربي التي تطبع وتوزع إصداراته في كلّ معارض الكتاب وليس في المملكة فحسب وقد رأيت إصداراته في معرض القاهرة الدولي وحدّثني بعض الأصدقاء أنه شاهد مثل ذلك في باريس. ونادي الشرقية ليس ببعيد عنه أقلّه حاضر في المكتبات المحلّية الكبيرة.
أما التجربة الثالثة فكانت مع نادي جازان عام 1999 م الذي أصدر لي ديوانا شعريّاً وسلّمني تقريباً جميع نسخه وكوني لست مؤسسة وأقبع في ركن قصيّ من الوطن وعليه فلا أستطيع توزيعه فقد أخذته في كراتينه ووضعته في غرفة من الغرف وما زال إلى الآن يمثّل شاهداً حقيقيّا على سوء توزيع الكتاب لدينا.
ويضيف الشاعر زولي أن هناك دولاً أقلّ منّا دخولاً وأكثر سكاناً تطبع كتب مثقفيها وتوزّعها بأسعار رمزيّة في محاولة منها لدعم الكاتب والكتاب حتى لو كان ذلك في طبعات شبه شعبية.
ويتساءل زولي في نهاية حديثه قائلاً: ترى ما الذي يمنع لو قامت وزارة الثقافة بشيء مثل هذا بدلاً من تسوّل دور نشر عربية أملاً في التوزيع، (اغيثونا) كلمة تلمع في عيون المبدعين السعوديين بانكسار مبين.
وكان لنا أن نقف في النهاية مع صحفي وكاتب وناشر مخضرم هو الأستاذ عبدالله الماجد صاحب دار المريخ للنشر: هذا الذي تتحدث عنه ونشاركك الحديث فيه، يدخل تحت مسمى «صناعة النشر» بصفة عامة، وبصفة خاصة فيما نحن معنيو الحديث هنا عنه «صناعة الكتب». وتتكون هذه الصناعة من عدة دوائر مترابطة، مثل الشعار الأولمبي، هذه الدوائر الأساسية هي: صانع المادة (المؤلف) أو (المحرر) والناشر والطابع (المطبعة) ومن ثم الموزع, وكل دائرة من هذه الدوائر، يتفرع عنها ومنها دوائر متخصصة في عملها، ومتشابكة مع الدوائر الرئيسية، مثلاً هناك علاقة عملية مباشرة ومترابطة، بين (المؤلف) و(الناشر) لصناعة المادة في شكلها النهائي، يقوم المحرر الذي يضع الكتاب في شكله العلمي المطلوب، وكذلك الجهاز الفني الذي يضع الإطار الفني لإخراج الكتاب، وتزويده بالعناصر الإيضاحية وخلافه.
ثم (الطابع) المطبعة التي لا بد أن تكون، قد وثقت علاقتها بالناشر، وفهمت المستوى الفني لكتب الناشر. فلو وقفنا عند هذا الحد، لأصبحت عملية صناعة الكتب ناقصة لأهم عنصر فيها، وهو (الموزع) الذي عن طريقه يترجم الهدف الأساس من هذه الصناعة كلها. ويواصل الماجد: الموزع هو بمثابة القناة الفيضية التي يفيض منها النهر إلى أماكن مختلفة. لا تستطيع أن تفصل دائرة عن أخرى. ولا يمكن أن يقوم طرف واحد من أطراف هذه الدائرة بعمل الدائرة الأخرى وإلا أختل التماس الطبيعي بين حلقات هذه الدوائر, لكن الذي يحدث لدينا غالباً، أن يتولى عمل هذه الحلقات المترابطة شخص واحد هو (المؤلف) يكون كل شيء, ثم إنك من خلال الطريق الطبيعي وتعزيز عمل الحلقات المترابطة في علمية صناعة النشر تكون قد أحكمت أموراً عديدة منها: التأكد من جودة المادة للكتاب، الحصر الببليوغرافي والتوثيق، الانتشار القانوني للكتاب وغير ذلك من قائمة تطول. ويطالب الماجد في ختام حديثه بإنشاء مؤسسة لتوزيع الكتاب، يشارك في رأس مالها الناشرون ويكونون هم أعضاء جمعيتها العمومية، ومنهم يختارون مجلس إدارة يدير هذه الهيئة أو المؤسسة، هذه المؤسسة تضع البرامج والخطط لتوزيع الكتاب.