نزح اليمنيون بحثأ عن أرض ينتمون إليها، لكن غربة العرب في أوطانهم كانت هي البلاء الذي يعيشونه كأمة.. 173، فموسى الفيل الذي اكتشف بعد أربعين عاماً أنه غريب، عاد إلى وطن لا يعرفه إلا من خلال الذكريات... 94، أما ابنته التي لا تعرف بلدها إطلاقاً فتشعر أن والدها يقتلعها من بلادها: « لا أعرف بلداً غير هذه البلاد... « 117. كل الذين أخذتهم النخوة ونزحوا مع النازحين، عادوا لوطن أضحوا به غرباء، فبائع فول الشرفية سرعان ما حن لجدة: « أحسست أني غريب على جدة، وغريب على بلدي، ضاع عمري بين اشتياقين..» 133، واكتشف جمال أبو ناب أنه «جز جذوره من شوارع جدة، فعاد إليها سيراً على الأقدام..» 191، وعاد عيسى شرف إلى جدة بعد غياب دام ست سنوات باحثاً عن كفيل لتحسين وضعه... 78. أما عبد الله الطائفي الذي اختار البقاء في اليمن فقد كان هدفه تثبيت جذوره هناك عنوة « كي لا أجد أحداً يرى في انتمائي مسبة تستوجب التوبيخ»، لكن عبد الله ظل منشطراً بين أرضين، لقد «كره أن يكون مطروداً وفضل أن يستشفي من حب الطائف في غربته داخل وطنه!!» 200.
أخذت رحلة البحث عن الانتماء اتجاهاً عكسياً، وعاد بعض أبناء اليمن إلى السعودية مرة أخرى مدفوعين بالحنين وطلب العيش الكريم، لكن العودة إلى الوراء لا تعني العودة إلى ما كان عليه الحال، فالزمن لا يفتأ يتغير، وعندما « وصل جمال أبو ناب إلى جدة، وجد أن جدة لم تعد جدة، فقد بات يسير متخفياً وترعبه سيارة الشرطة..... التي تستهدف المتخلفين.. 192. هكذا « يغدو الخروج من جدة عذاب، والبقاء فيها عذاب» 140. عاد اليمنيون مرة أخرى إلى مكان عربي لكن في زمن آخر، هو زمن الانتماء الوثيقي، لم يكن بحوزتهم وثيقة تثبت انتمائهم، بينما غلام الجحش، الهندي الأصل، والذي كان يتغاضى عن إهانات الكثيرين لأنه «يخشى الوقوف في الشرطة عارياً من أي وثيقة رسمية» 295، حصل على الجنسية اليمنية 79، وتوفيق عبد الله المنتمي إلى قبيلة سعودية معروفة، أصبح أيضاً رجلاً يمنياً 257. الجذور إذاً ما عاد لها أهمية في تحديد الانتماءات، فالوطن ما هو إلا تلك الأرض التي تمنحك صكاً يثبت انتماءك إليها. أصبحت الأرض العربية أرضين، الأولى تمنحك وثيقة انتماء، والثانية تكتفي بالترحيب بك بمقولة: « أهلا بك في بلدك الثاني..» 256، وبينهما تنتصب الحدود ونقاط التفتيش 204، بينهما. « كلنا مشطور» 105.
ويرصد النص حادثة دالة ليس فقط على هذا الانشطار، بل وعلى خطورته، فالصحفي السوداني الذي ظل منبوذاً في بلده من الأفارقة لكونه يحمل جذراً عربياً صرفاً، ومنبوذاً في البلاد العربية لكونه يحمل جذراً أفريقياً، يحكي للبطل قصة عجيبة انتهت بمقتل أخويه الأكبر موسى، والأوسط عثمان، حينما كان هو في الامارات 237. اجتمع موسى وعثمان في قريتين حدوديتين للسعودية واليمن لا يفصل بينهما سوى خط وهمي، وكان في أحدهما عرس انطلقت منه رصاصة قاطعة الحدود ومستقرة بهامة عثمان وكان مدرساً، فاخترق أهل القرية الأخرى الحدود وبحثوا عن مدرس مماثل ليثأروا لمقتل مدرسهم، فوجدوا موسى - وكان مدرساً أيضاً- فأردوه قتيلاً.. 239- 40.
هذه الكارثة التي تبدو مضحكة 240 وشخصية هي في الحقيقة واحدة من الكوارث العامة التي نزلت على الأرض العربية منذ ان احتلها المستعمر وقطع أوصالها. كانت الأرض العربية شاسعة ممتدة ومتصلة، لكن المستعمر قسّمها وتوازع خيراتها، ولم يخرج منها إلا وقد نصب الحدود الفاصلة بين أطرافها. شبح الاستعمار مازال يخيم على أجواء اليمن، وعدن تظهر في النص كبوابة « لذكريات الساسة المتناحرين على سجلات التاريخ» 11، فقد بذر كل من السوفيت والانجليز « في تربة عدن مسامير الوجع لتتحول المدينة إلى آهة بحجم الألم..» 8.
لكن الأدهى أن الاستعمار لم يغادرالأرض العربية تماماً، بل هو حاضر يهدد بالعودة في زمن قادم. فالأسماء الانجليزية التي وضعها الانجليز في كل مكان تظهر كأختام تركوها
« مؤقتاً لحين يعودون.. فهم يعرفون نتائج ألعابهم ويعلمون أن زمن العبودية سيعود مرة أخرى «10. حتى سائق التاكسي البسيط يتنبأ باحتلال قادم: « يبدو أننا سنظل رهينة للاحتلال فيما سيأتي من أيام.. « 13. لكن الأطماع المستعمرة لم تعد تطل على الأرض العربية من بريطانيا فقط، بل إن أمريكا التي « تعرف مواقع حجارتها جيداً « 241، تخطط بتأني لاستعمار اختلفت صوره، لكن كل صور الاستعمار بشعه لأنه « يسوس الشعوب الغائبة بفعل الجهل، والجوع، والبطش». 10 ثم إن هناك الخطر الأكبر المتربص بهذه الأراضي العربية، فالنص يشير إلى مخطط اسرائيلي يهدف إلى شراء بيوت يهود اليمن بأسماء يمنية، ويتساءل: «هل شراء البيوت اليمنية تمهيد لاستيطان إسرائيلي قادم؟ «205. ثم يأتي تعليق عثمان الوردي كتقرير عن حالة التمزيق والانتهاك: « إن من يصنع الحياة هم أولئك الأوغاد .. الذين.. يأتون من فجاج الأرض يتكاثرون كخلايا النمل، ويعكرون حياتنا. .. بلدنا لن تفلت منهم.. سيأكلون لحمنا، وغدا سيسحقون عظامنا. «73 .
ويرصد النص كوارث عديدة توالت على أرض العروبة، فمن كامب ديفيد، واستعصاء حل القضية الفلسطينية إلى الحرب الايرانية العراقية والتي تلتها وقائع التعبئات العسكرية في المنطقة حتى « فاحت رائحة الحرب..» 27، و في انتظار اشتعال الحرب، يكون الشعب العربي هو « الحطب المقدم لألسنتها مهما بعدنا عن لهيبها..» 18. مع الاحتلال العراقي للكويت بدأت كارثة حرب الخليج الثانية 26 هذه الكارثة التي اصطلينا بها كدجاج جلب من حظيرة ... 14، راقب العرب «الصواريخ وهي تقصف بغداد في عملية ثعلب الصحراء..» 17 التي خططت لتدمير العراق كاملاً.... 21. أرض عربية أخرى كانت ترزح تحت الاحتلال 19 والعرب يكبر خوفهم ويزداد هلعهم 27 من التحالف الدولي ضد العراق ومن الأبخرة الكيمائية.. 27 التي فتقت سدود طمأنينتهم وشعّبت بينهم الفزع 19. وخلال الحرب الطويلة في مرتفعات أفغانستان.. 30، والإرهاب في مصر، 230، ثم اجتياح بيروت، كان سماسرة الحروب كالخفافيش تنهض في الليل وتمتص الدماء الطرية 27، وتنذر بدمار شامل للأرض وللعلاقات التي تربط أبناءها.
في مؤتمر الديموقراطيات الناشئة في اليمن يلتقي الأخوة العرب فيشتبكون في حوارات متشنجة ويتلاومون ويتنابذون ويتشاتمون بأقذع السباب وبنعوت بذيئة على شاكلة: يا متعفن، يا زبالة، يا حقير، يا حثالة، يا حشرة، يا رجعي، يا متخلف، يا قرد، يا دودة، يا نكرة، يا عملاء. أصبحت تلك الشجارات سمة ملازمة لكل العلاقات العربية فالخصام أمر ليس بجديد.. 174-176، وبهذا النبذ المتبادل ولدت الدكتاتورية العربية... 235. كثرة الشتم واللعن في الرواية علامة واضحة على انعدام الحيلة والضعف والانهزام، حينها ترتفع الأصوات تتبارى على نبرات أعلى للسخط والشتم، حتى يتضح أن النباح ليس صفة كلابية بحتة، بل هو أي زعيق تشاجري لا يحقق سوى الازعاج والانزعاج. تتصاعد المناوشات النباحية « كلما سكت كلب، وأتى نباح كلب آخر ليحتل موقع نباحه»، فيتحقق المعنى للمدخل التمهيدي الذي اختاره عبده خال لروايته: « آوه.. المدينة تعج بالكلاب» 6.
وفي هذا السياق الضجيجي الضعيف يظهر أنور « كفارس عربي سقط من على جواده، وظل يركض في أرض.. 10.. المعركة بلا سيف، أو درع، يحوم مدافعاً عن صدره بالشتائم، وعياش صورة أخرى: فارس أيقن من الهزيمة فترجل عن فرسه ليتعرف على الضحايا، وليعرف أيضاً كل المؤامرات التي تركته يجول أرض المعركة بهذه الهزيمة» 11. ويقود افتقاد العزة العربية إلى الحفر في أعماق التاريخ العربي المتماسك تلمساً للجذور وتمسكاً بها، واختياراليمن كفضاء سردي يخدم فكرة البحث عن المفقود ذلك أن تاريخه طويل وحضارته موغلة في الزمن، ومنه خرجت العرب لكل بقاع الدنيا... 125. في صنعاء يشعر البطل أنه في عمق الحضارة 146، وينبعث شوق من الداخل يوصله إلى جوف التاريخ 108 فيتساءل: لماذا نرتد لمئات السنين فجأة.. نرتد للعروق بينما الأوراق متيبسة جافة..» 146. ثم تتصاعد نغمة الرثاء على فقيد مات جنيناً في قوله: « تاريخنا العربي .. قست بيضته كاشفة عن خيط دم، خيط كان مشروعاً لجنين فسد في الظلمة والهواء الرث» .. 109. عند آخر مرافئ وحصون الحضارة العربية العريقة يستدعي النص ملكات سبأ، فها هي بلقيس تغادر عرشها من غير أن تلتفت لمن انحنى أمام عرشها» 149، وهاهي الشريفة حفصة إبنة الإمام تجلس على كرسيها وهي ترتدي تاجها في القصر الملكي 213. لكن هذا الزمن الهزيل، زمن التاريخ الفاضح، لا يقدم إلا ملكات على شاكلة شمس التي تجلس في المرقص « كإمبراطورة تحف بها الوصيفات من كل جانب» 312.
الرياض
lamiabaeshen@gmail.com