تتأسس المنظومة التبريرية للعقل الفتنوي عند الدكتور عبدالله الوشمي على أربع مستويات، روح المكان ومعتقداته، المرأة، التنميط الثقافي لمجتمع الممانعة وخصوصية الأنا وانعزاليتها مقابل الخوف من الآخر والمحو من خلاله، وهي مستويات استدعت من العقل الإصلاحي أن ينظم مستويات منظومته التبريرية على غرارها لتحقيق قيمة التوازي كمنطق حجاجي، وتلك المستويات هي التي تنظم وحدة التعالي التي يتحرك في ضوئها العقل الفتنوي وهي الوحدة التي تحول المعرفة كمجموعة من قضايا الإمكانات إلى مسلمات وثوقيّة مكونة لعنصري أنطولوجيا الفهم «الحقيقة»، والثابت والمتحول.
والحقيقة كونها محور وحدة التعالي تتأسس وفق ما سنّته اعتقادات الجماعة الدينية والاجتماعية والثقافية، وتنبني إشكالية وحدة التعالي وفق المواقف التلقائية التي تشكل مفاهيم المرء وذاكرته وقراراته نحو أي تغيير بناء على سلمي السببية والكيفية؛ نوعية الحكم من حيث الصدق والكذب مع وقائع العالم الخارجي، والسببية كعلاقة واقعية بين الأشياء والأحداث في العالم، وهي علاقة تنتج من خلالها ظاهرة ما هي السبب بظاهرة أخرى هي النتيجة، وبذلك يصوغ الحكم الاستقرائي بأن صحة الحكم يعتمد على النمطية التي توجد باعتبار الواقعة أو الموقف المعيشي أو حالة معينة، وهنا تتقلص معطيات النسبية للمتحولات لمصلحة توسع معايير الثوابت. فنحن عندما نفكر نفكر وفق هيمنة طريقة معينة ترتبط بها أفعالنا أو أفكارنا أو أحاديثنا بمفاهيم المنظومة العرفية التي تتحكم بطريقة اعتقادنا «المعطيات والمعايير».
وهي اعتقادات تستمد خصوصيتها من روح المكان، ولذلك فالمكان يصبح ذا صفة اعتبارية كمكون من مكونات بنيوية الحقيقة، وتلك الاعتبارية هي التي تُحول المكان إلى سلطة وبالتالي تحدث المعادلة المقلوبة، فبدلاً أن يتحكم الإنسان في المكان، يصبح المكان هو المتحكم في الإنسان وقبوله أو رفضه للتغيير، وهذا القلب للمعادلة يدعم إستراتيجية الثابت لكل متحول ويهمش فرضية المتحول لكل ثابت.
وسلطة المكان كانت من أهم مؤسِسات المنظومة التبريرية للعقل الفتنوي، في أنحاء من نجد والقصيم، واشتهرت مدينة بعينها بقيادة المنظومة التبريرية للعقل الفتنوي لتصبح نموذجاً لمجتمع الممانعة «بصفتها البقعة الأكثر محافظة عند بعض الراصدين»-22- ولِما تتميز به من خصوصية فكرية دينية وخصوصية فكرية متناقضة حيث» تجد فيها الأضداد جميعاً، فالمتشددون والمحافظون والليبراليون يجتمعون في بقعة واحدة، أو ينتمون إليها ويفتخرون بذلك»-ص 21- واجتماع الأضداد أنتج فيما بعد حزبي المعارضة والتأييد ليمثلا «رؤى شرعية تتفاوت في طرائق الفهم والتأويل للمسائل»-31-، كما أنها مدينة شغلت» حيزاً كبيراً في تفكير الراصدين لحركات الصحوة الإسلامية ورجالاتها ونماذجها» -21- ولذلك فهي تتميز عن غيرها من المناطق «بمزايا مختلفة من حيث النوع والمنهج»-ص 20-وتحولت تدريجيا تلك الخصوصية للمكان إلى عقدة نرجسية تندمج فيها القيمة البشرية بقيمة المكان. ولعل هذا التخصيص كان بسبب ما تتميز به من تمثيل ديني كونها «هي موطن كثير من الأسماء والأنشطة الدينية، وتحضر في المخيال الشعبي بصفتها الدينية»-23- وهذا التمثيل بصفته الاعتبارية كونه يملك ممثلات الاعتبارية نقل المدينة «من كونها بقعة جغرافية، إلى أن تكون رمزاً وإطاراً فكرياً تستتبعه مجموعة من الرؤى»-30-، وهذا الانتقال هو الذي صنع من المدينة سلطة معارضة أو سلطة ممانعة سعت إلى إيجاد تنظيم ونشاط رسميين يؤكد سلطتها المكانية ويمنحها صفة المعارضة.
وتلك الخصوصية كما أسهمت في نشوء العقل الفتنوي أسهمت أيضاً في نشوء العقل الإصلاحي.
واجتماع العقلين في ذات المكان هو الذي نقل قضية تعليم البنات من بعدها الاجتماعي إلى بعدها السياسي الذي تمثل في ذهاب وفد المعارضة إلى الملك سعود «لطلب العدول عن افتتاح مدارس البنات أو استثناء مدينتهم»-40- وهذا القرار يكشف «عن تحرك نشط ومنهج تنظيمي دقيق.. ومرحلي»-43- أي تسييس المعارضة الذي أقدمت عليه كلا السلطتين المعارضة والمؤيدة، وتسييس السلطتين كان من أهم عوامل قيادة المدينة للمنظومة التبريرية للعقلين الفتنوي والإصلاحي، إذ كانت المدينة تتحرك ضمن صراع متوازن ومتوازٍ بين سلطتي الممانعة والتأييد وصلت دراميته ليلتقي كلا الوفدين «الممانع والمؤيد في الديوان الملكي ليطالب كل منهما بما يسعى إليه»-43-.
وهذا التوازي بين العقلين على مستوى تسييس خطابهما، نقلهما إلى بعد ثالث ليبحث كل منهما عن مفاضلة تنقل الخطابين من صفة التوازي بينهما إلى صفة التعالي لأحدهما على الآخر. والبعد الثالث هو البعد الثقافي أو الصناعة الإعلامية لمفاهيم كلا الخطابين وهي صناعة كانت تهدف خدمة «تكوثر المفاهيم» عند كلا الخطابين، فأصبحت جريدة القصيم صوت العقل الإصلاحي «طرفاً من أطراف القضية، ولم تتخذ صفة الحياد، ولذلك غابت رؤى المخالفين»-95- كما كان لمؤيدي العقل الفتنوي» رؤاهم ومقالاتهم في الصحف الأخرى»-95- ويبدو أن اليمامة كانت تمثل الصوت الإعلامي لأصحاب العقل الفتنوي التي تقدم منطقهم الحجاجي في ردودهم على أصحاب العقل الإصلاحي، وكذلك صحيفة راية الإسلام أسوة بجريدة القصيم، وبذلك أصبحت «المواقع الفكرية» الإعلام والمنبر «سبيلاً يكشف الصراع الثقافي بينهما»-96-وكانت هناك وظيفة أخرى للصحافة وهي تمهيد للقرار الحكومي و»مناقشة وحوار بين أطراف واتجاهات واضحة في أغلب الصحف»-99- والتدرج «في عملية التوعية بالهدف العلمي.. وإفساح المجال الإعلامي للمؤيدين فيه إيضاح قيمة تعليم البنات، ومناقشة أفكار الممانعين»-101-
ولم تكن الصحف وحدها مصدر الصناعة الإعلامية لخطاب العقل الفتنوي بل تعددت مصادره فشملت المساجد والمجالس والخطب، وتعدد المصادر كان يهدف إلى الاستفادة من الدين كوظيفة حجاجية، ولضيق مساحة الرأي الصحفي، كما أن أصحاب العقل الإصلاحي أيضاً استفادوا من الدين كوظيفة حجاجية، وأصبح الدين كوظيفة حجاجية يحرك مفهوم الفتنة، فأصحاب سلطة المعارضة يرون أن «تعليم البنات فتنة»، وفي المقابل يرى أصحاب سلطة التأييد أن رفض الممانعين لتنفيذ قرارات ولي الأمر ومحاربتها «فتنة» وفق المعيار التشريعي، وبذلك أصبح «مفهوم الفتنة» هو المعادلة التي تتحرك في ضوئها المنظومتان التبريريتان للعقل الإصلاحي والعقل الفتنوي، فكلاهما اعتمدا على مفهوم الفتنة كمنطق حججي تشريعي لا منطقي.
إضافة إلى أن مستويات المنظومة التبريرية للعقل الإصلاحي كانت تتوازى من حيث الماهية والنوع والأسلوب الحجاجي التشريعي أو المنطقي مع مستويات المنظومة التبريرية للعقل الفتنوي، وكان ذلك التوازي ضرورياً لإحلال مستويات المنظومة التبريرية للعقل الفتنوي، وهو ما لجأ إليه أصحاب العقل الإصلاحي والقرار الحكومي من خلال الدعوة بأن يكون المسئول عن تعليم البنات من رجال الدين، وبذلك يتم تكسير المنطق الحججي للخطاب العقل الفتنوي لإحدى مستويات منظومته التبريرية وهو «حل استباقي أو هو تكتيك إستراتيجي»-120- ليقنعوا عامة الناس «بسلامة المنهج التعليمي»-121- و»حل واجه النقد الشديد من قبل بعض الممانعين»-121-
واكتساب قضية تعليم البنات بعداً ثقافياً يعني تحويلها إلى جدلية حضارية وخاصة أن هذه القضية كانت تنتصب» في بدايات النمو الحضاري، والمتابعة العالمية لهذه الدولة الفتية»-40-.
والمستوى الآخر والمعقد للمنظومة التبريرية للعقل الفتنوي هو «المرأة»، وهو مستوى مشترك بين المنظومتين التبريريتين للعقل الفتنوي والعقل الإصلاحي، فكلاهما استثمرا «المرأة» في خطابه على مستوى «تكوثر المفهوم» وعلى مستوى «المنظومة التبريرية»؛ فهي «موطن الخلاف والاتفاق الأكبر، حيث يختلط الديني بالاجتماعي بالأخلاقي»-ص24-، ولأن «حادثة تعليم البنات كانت مثيرة للمجتمع من عمقه»-17-، ليس لأن المرأة هي الدال الرسمي لمفهوم الفتنة وأشكاله، بل لأنها تمثل في معتقد العقل الفتنوي والإصلاحي «الآخر»، كما أن ظهورها يمثل «محو» للمقابل، كما يعتقد العقل الفتنوي، كما يمثل تغييراً لمعادلة المقابل عند العقل الإصلاحي.
وبذلك فمحتوى الفهم وخصائصه عند العقل الفتنوي يتعاكس مع محتوى الفهم وعناصره عند العقل الإصلاحي رغم وحدوية المفاهيم، فبينما يرى العقل الإصلاحي أن فهم الأشياء يعتمد على تجدد الإمكانات بفعل الزمان «التقنيات الحضارية» والذي تتحكم في صياغة تصورات معايير الوجود من تواصل بين الموضوع والمحمول وارتباط، لتصور قيم الأشياء باعتبار أن التعدد والكثرة تنطوي على وحدة الأثر والمرجع «الجوهر» و»الرابط».
يلجأ العقل الفتنوي إلى وحدة القضية التي تعتمد على إحلال حاصل التصور محل الدلالة العامة للمفاهيم، وهو ما ينتج وهم المعرفة بقيمة الأشياء أو ضررها وفق الإدراك المباشر لصفة الأشياء المرتبطة بمرجع أو مفهوم عرفي، وهذا التثبيت للصفة كمعادل لصفة التساوي، يساوي من حيث قابلية التغيير والتطوير بين الثابت والمتحول، وذلكم إحدى إشكاليات الأزمة الحضارية التي أنتجها العقل الفتنوي.
كما أن المرأة قلب المنظومة العرفية للمجتمع المؤسَس على نظام العادة، «والعادة هي نظام ترتيبي ذهني تقوم على المؤثرات المتطابقة أو المتشابهة أو المتجاورة التي تنتج آثاراً واحدة».
والترابط هنا كتقنية لنظام العادة يعتمد على وحدة الصيرورة، ولذا رأى الترابطيون الإنجليز أن الصيرورة هي التي تشكل العادات «وبفضلها تكسب هذه العادة أو هذا الترتيب للذهن القوة اللازمة» لمقاومة التغيير وبناء خطة دفاع مضادة لتثبيت سلطة العادة، وترسيخ الاعتقاد لفكرة أو مفهوم أو معطى عبر تقنيات الاستدلال، والاستدلال هو التوصل إلى حقيقة معطى جديد بوساطة معطى قديم، وبذلك يصبح المعطى القديم بمثابة مقدمة التحقيق التي تقرر قيمة المعطى الجديد، والاستدلال بذلك يعتمد على خلفية الواقعة وما تحمله من أثر وليس على الخلفية الفكرية لما يمكن أن نستنتج من ما يخفى داخل الأثر، والاستدلال كإحدى آليات تفكيك وحدة القضية يعتمد على الانتقائية، وهو لا يخضع لمعيار الصحة إلا في ضوء الوظيفة التي أٌسندت إليه من قبل العادة، والاستدلال هنا يحول الشك نحو مفهوم أو قيمة أو صفة إلى اعتقاد يحقق للمرء معرفة نحو المفهوم ويثبت معايير ما يعتقد أنه حاصل تلك المعرفة، ويؤسس قاعدة سلوك وتفكير ووسيلة تعبير لتعميم تلك القاعدة.
وبالتالي فأي تغيير يلمس النظام النسقي لأحوال المرأة هو تغيير لنظام العادة ومحمولاته، ولذلك عدّ العقل الفتنوي أحوال المرأة من قبيل «الثوابت» بينما عدّها العقل الإصلاحي من قبيل المتحولات فهي وفق المتحول «نقطة البدء» التي سوف تفتح عصر الإصلاح وتخلق الحراك الثقافي والاجتماعي، وأنها بداية القفزة الحضارية، وعند العقل الفتنوي من قبيل «الثوابت» لذلك أي تغيير يطرأ عليها كثابت يعني تهديداً لوحدة التعالي للمنظومة العرفية للعقل الفتنوي، أي «الرجل، وهذا ما يدفع المنظومة العرفية إلى إيجاد جهاز دفاعي لحماية متمثلها ومتمحورها «الرجل» ليظل هو الصوت «الأعلى.. الذي يفهم وينوب عن المرأة في الفهم»-76- وأي تغيير في محتوى تلك المعادلة عبر الاعتراف بالقدرة العقلانية للمرأة من خلال التعليم وما يترتب عليه من إنتاج معرفي نسوي سوف يقسم تلك السلطة مناصفة بينه وبين المرأة، مما يعني بالنسبة للمنظومة العرفية سلباً لسلطة الرجل، ولذلك يسعى جهاز حماية وحدة تعالي المنظومة العرفية عبر مستويات تبريرات العقل الفتنوي إلى محاصرة «عقلها» من خلال توهيمها بأن عقلها «له حدود تنحصر في إطار المنزل فقط، ومن كان عقلها محدوداً فكيف تتصدى للحياة، والحياة واسعة غير محدودة»-79-، وتعليم المرأة كان يعني إلغاء لتلك الوصاية وكسر ذلك الحصار من خلال تغير النمط الذي تواطأ عليه العقل العرفي بوظيفة المرأة ودورها ومسئوليتها وبذلك اكتسبت قضية تعليم البنات «بعدها الفتنوي»-24-.
ولمنع حدوث ذلك التكسير والإلغاء كان الأمر يتطلب إلى حشد مسوغات التحذير من تغيير واقع المرأة المحاط بالجهل وربط ضرورة استمرار ذلك الواقع بوحدة حجاجية متعالية هي الدين، ومأثورات التراث، مما حوّل المأثور التراثي غير الموثوق عبر تضمينه لخلفيات الوحدة الحجاجية المتعالية «الدين» إلى وثيقة حجاجية؛ لإعادة تمثيل «ذواتهم القديمة من خلال نسخة حديثة»-74-، وهذا الاحتيال الحجاجي الذي مارسه العقل الفتنوي كقرينة لتدعيم تكوثر مفهومه، مارسه أيضاً العقل الإصلاحي كقرينة مضادة لمحاصرة تكوثر مفهوم العقل الفتنوي وتدعيم تكوثر مفهومه، وهكذا دخل المأثور التراثي لعبة تكوثر المفهوم بين العقلين.
وبذلك أُخضع المأثور التراثي كمنطق حجاجي لوحدة القضية عند كلا العقلين إلى أوليات القاعدة البنيوية للمفهوم وإن كانت أولياته عند العقل الفتنوي ركزت على المنظومة الشعورية للبعد العرفي للجماعة، مما أسهم في إبراز عيوب المنظومة الشعورية للمنطق الحجاجي للمأثور التراثي من خداع الذات وسوء التأويل وتقرير السلوك وفق ما يُعتقد، لا بناء على مستلزمات الحالة الحضارية.
والتوجيه المقصود للاعتقاد المبني على الدائرة الشعورية أو وحدة التعالي، يجعلنا نتحكم في إعطاء القيم للأشياء أو منعها، وخاصية العطاء والمنع كإحدى خاصيات وحدة القضية هي التي تؤهل المرء لقبول التجديد والتلاؤم معه أو رفضه ومحاربته وتنتج قصديته التي تحرك معقولياته للأشياء وتنظم مواقفه منها، لأن المؤثر الدافع لإنتاج الأفكار العامة والأفعال عادة ما يشتق من طبيعة إدراك الفرد لماهية الأشياء وصفاتها وقيمها بمعية ومساعدة مصادر المنطق الحجاجي، وبذلك تتحول الأفكار العامة المنتجَة من تقابل جدلية دلائل المنطق الحجاجي إلى آليات لتأويل حقيقة الأشياء سواء على مستوى الماهية أو الصفة أو القيمة التي تجدّول العلاقات المتضمنة لإثبات أو نفي مميزات القيمة وإثبات أو نفي مفهوم الحقيقة لوحدة القضية.
وتجّدول العلاقات المؤسَسة وفق قاعدة النفي والإثبات تبرز عبر مقدمات القضية كبرهان منطقي تعتمد عليه العناصر المكونة للعلاقات والمواقف.
وكانت من المسوغات المحشودة في قائمة التحذيرات من تعليم المرأة أن تعليمها يعني «خروجها من هذا الواقع الافتراضي..، ولذا تم التعامل مع العلم بوصفه صقلاً للسيف، والسيف المصقول لا بد أن يذبح أحداً»-73- ويُخرج المرأة من سلطة المنظومة العرفية/ الرجل.
وتعددت حجج حراس المنظومة العرفية في تسويغ التحذير من التعليم ومقاومته والاجتهاد في تعيين توصيفات له تتفق مع المنطق العرفي الشائع لممثلات المرأة لذا وصف تعليمها بأنه «شر» و»فتنة» و»معصية» و»طريق الحرام» و-»زندقة وخروج عن التقاليد ودعوة للشذوذ الاجتماعي ودعوة إلى الإباحية»-1 03-؛ لأن العقل العرفي المبني على مؤسِسات المنظومة العرفية اختصر المرأة «في الأنثى، ويختصر الأنثى في جانب الفتنة، ويختصر الفتنة في جانب الشر، ويختصر الشر في جانب مبادرتها وسعيها إليه، ويختصر سعيها إلى الشر في حرصها على امتلاك وسائله، وهو التعليم»-ص 71-، وبالتالي فإن المرأة لا تحضر في منظومة العقل العرفي إلا بصفتها «فتنة» وهذه الصفة للحضور يجعل كل ما يتعلق بالمرأة هو من قبيل الفتنة على مستوى السبب والحاصل، ومن قبيل الفساد، وهي اعتبارات مبنية على مدى التغيير الذي يحدثه التعليم لأحوال المرأة؛ أي نقلها من كونها ضمن «الثوابت» لتصبح ضمن «المتحولات» وما يترتب عليه ذلك التغيير من إعادة صياغة المفاهيم الجذرية للمنظومة العرفية التي تلتف حول المرأة، وظهور إشكاليات حضارية مثل إشكالية الآخر، وأصبحت المرأة «عميلاً مزدوجاً» كونها بتعليمها وانفصالها عن سلطة الرجل مثلّت آخراً عن الرجل، وكونها استدعّت الآخر لتعليمها، وحضور الآخر كمنتِج في ذهنية العقل الفتنوي يشبه حضور الآخر في فلسفة «سارتر» «الجحيم هو الآخر» فحضور الأنا لا يتحقق إلا بغياب الآخر، وحضور الآخر يؤدي إلى غياب الأنا، ولذلك تسعى الأنا عند سارتر إلى الإنتاج المستمر الذي يحقق وجودها لأنه هو السبيل إلى منع حضور الآخر وبقاء الأنا في دائرة الوجود.
وبذلك فمسألة تعليم المرأة أبرزت موقف البعض من خوفه من الآخر وما قد يحمله ذلك الآخر من آليات محو الأنا عبر تغيير النظام النسقي لمنظومته العرفية ودائرته الشعورية، كما كشفت مسألة تعليم المرأة ظاهرة التعالي من قبل المواطن المحلي نحو الآخر العربي وخاصة النساء والتشكيك في مبادئهن وقيمهن الدينية، وبذلك فإن مواطني تلك المناطق مارسوا إسقاط معايير منظوماتهم العرفية على النساء العربيات، فالتشكيك في القيم الدينية للنساء العربيات وقدراتهن العقلية كان تابعاً لرؤية المنظومة العرفية للمرأة المحلية، وممارسة التقويم الديني للآخر العربي كانت البذرة الأولى لتكوين العقل المتشدد التكفيري الذي صُدِّر فيما بعد لمناطق المملكة، على اعتبار أن بعض أهل تلك المناطق يخصصون «لأنفسهم القداسة»-23- مما أنتج ذلك الاعتبار فيما بعد معايير العقل التكفيري والتجربة الإرهابية في السعودية.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7333 ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
seham_h_a@hotmail