وستمتد سيميائية «الدمام» في حياته لتغدو جغرافيتها المطلة على البحر والصحراء، كرمز بارز على جدلية الحركة والسكون، الماء والعطش، التراث والحداثة، وستتبوأ مفردة «البحر» موقعها الرمزي العميق في شعره كمعادل موضوعي لحركة المجتمع في سكونه وعمقه وغضبه واحتمالاته، مثلما ستصير مفردة «الماء» معادلاً آخر لجماليات الحلم والافتتان بتأمله والبحث عن القبض على مثالات شفافيته النافرة!
وإذ كانت الحياة والدراسة في «النجف» مناخاً حاسماً لبلورة متلازمة «التأمل، والنقد والقطيع» في مسيرة حياة محمد العلي فإن «الدمام» قد غدت محطة ومختبراً لتطور تلك المتلازمة، وفيها يخوض جدل التراث والحداثة أصعب معاركه؛ حيث يشير إلى ذلك في هذه العبارة: «ليس أشد عسراً من أن يهدم إنسانٌ ما رأيه بيديه، حتى ولو كان ذلك في سبيل الوصول إلى رأي أكثر صواباً، فمن طبيعة الإنسان الدفاع عن آرائه، لكنه حين يصل نضجه إلى حد فحص آرائه، ونقدها، وهدمها.. فمعنى ذلك أنه قد تجاوز نفسه، ومعناه الآخر أنه أسلم خطاه إلى اتساع الرؤية، وعلميتها» (محمد العلي شاعرا ومفكرا ص 215). وفي الدمام ستتبلور رؤيته الفكرية، وسينحاز إلى تجربة كتابة قصيدة التفعيلة، ويمضي إلى نهر الحداثة، في مختلف تجلياتها الثقافية والفكرية والإبداعية والاجتماعية والسياسية، حين اختمرت عدتها المعرفية وتطلعاتها الديمقراطية في وجدانه، منذ أواسط الستينيات الميلادية.
* ولأن «محمد العلي» شاعر وناقد ومفكر، فقد أخذت هذه الحقول موقعها الأساس على رأس سلم أولويات انشغالاته الكتابية، بينما تغيب أو تتنحى في خلفية الصورة هموم المشاغل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في أبعادها اليومية، على الرغم من أنه من أشدّ الناس عاطفة حيال أي موقف أو قضية أو حدث يمس حياة أو حقوق الفرد أو الجماعة (وطنياً أو عربياً أو عالمياً).
لذلك فإنه حين يقارب تلك الحالات أو الهموم فإنه ينزع إلى التعاطي معها - كتابة وحواراً - وفق منظور فلسفي وتاريخاني، يحولها من يومية الحدث العابر إلى بُعدها الأعمق في مسيرة الزمن، فيقبض على دلالاتها كعنصر من عناصر التحوُّل والنقض والهدم والتمرد والبناء، ضمن رؤيته لمسيرة صيرورة الحياة وتعاقب تحولاتها.
مدنٌ أخرى ودلالات:
ولاستكمال حضور سيميائية المدن في حياته الثقافية سنعرج على المدن الآتية:
نجد - الرياض:
بالرغم من أن لسان العرب يشير إلى أن «نجد» هي المنطقة الواقعة ما بين أواسط شبه الجزيرة العربية حتى قلب العراق إلا أنها لم تعد كذلك في حياتنا المعاصرة، حيث تحدد موقعها بوسط المملكة وحسب، لذلك فإن «الرياض»، عاصمة الوطن ومحضن النخب المؤثرة في صناعة مستقبل الوطن، تحضر في أحاديثنا أو كتاباتنا متلازمة مع «نجد».. «نجد» المرتقى العالي، والأصعب، ونجد النجدة والإنجاد (بحسب نفس القاموس)؛ لذا يمد «محمد العلي» يديه إلى ذلك المعنى، حين ألقى فيها (وليس في الدمام الفقيرة ثقافيا) أولى محاضراته بعد عودته من (العراق - النجف)، بدعوة من منتدى الأمير خالد الفيصل، الذي كان يشرف عليه الأستاذ «سالم النحاس» في عام 1964م.
وقد كانت المحاضرة بابا تعرف فيه نخبة من مثقفي الرياض على مثقف طليعي مختلف، وكان من بينهم عبدالله نور وعبدالله الماجد، وفواز عيد وسواهم من الأقلام والعقول التنويرية في تلك المرحلة (1)
وقد دعته «الرياض» مرة ثانية عبر ناديها الأدبي لتقديم محاضرة في عام 1996م، فاستحضر المكان المعاصر وتحفيزاته ليكتب واحدة من أهم دراساته بعنوان «المثقف والأيديولوجيا»، التي يؤكد في إحدى فقراتها على دور المثقف، قائلا ً: (إن المثقف لا بد أن يحترق بالحنين إلى ما أسميه «أيديولوجيا المستقبل»؛ لأنه دائماً في توق إلى ما يجب أن يكون لا إلى ما هو كائن.
إن أيديولوجيا المثقف أيديولوجيا مستقبلية (هيولي) غير متحققة، يسعى المثقف إلى أن يحققها بعناد، وإن كان على يقين من أنها لن تتحقق. وإن تحققت ففي مأزقها النسبي) (محمد العلي شاعرا ومفكرا - ص 318).
وقد أصرّ النادي على ضرورة الاطلاع على المحاضرة قبل إلقائها؛ ما حدا به إلى رفض الطلب، فألغيت المحاضرة، وتم نشرها فيما بعد، عام 96م في العدد الخامس من مجلة «النص الجديد».
وستبقى الرياض - المدينة والرمز - حاضرة في جدل علاقته بنفس المكان، حيث يقول في قصيدته «غابة الصدأ»:
(«توسّد غصون لياليك، أوقد بها سهد قلبكَ
إن الجليد استطال،
فأفرغ حرارة ما تتذكّر فوق الجسور
التي يعبر الدفء فيها، لتمتد ثانية
لم تعد نجد نجداً
فأشعل قصائدك الغزلية، كفكف غيومك
من أفقها الأموي،
استجب للرياحِ
وخذ من يديها يديك!)
(محمد العلي شاعرا ومفكراً - ص 403)
وكأنه لا يتصادى، وحسب، مع قول الشاعر الشعبي «يا نجد من سماك نجد غوى اسماك...»
وإنما مع بيت الشعر الذي أورده لسان العرب، حين قال في مادة «نجد» أنشد ثعلب: «ذراني من نجدٍ فإن سنينهُ
لعبن بنا شيباً وشيّبننا مُردَا».
ولذا لم ينشغل «محمد العلي» بالتفكير في الإقامة الدائمة في الرياض، رغم ما تحفل به من وعود وظيفية أو ثقافية براقة!
الطائف:
حين استضافته مدينة الطائف ليلقي محاضرة في جمعية الثقافة والفنون، اختار «محمد العلي» موضوعا عنوانه «الغموض في الشعر».
لماذا اختار الشعر وغموضه دون غيره من الموضوعات الكثيرة التي يشتغل عليها؟
لا شك عندي أنه اختار ذلك الموضوع مستجيباً لإيحاءات المحمول الدلالي التاريخي الأبرز لمدينة الطائف، والمتمثل في سيميائية ترابطه ب»سوق عكاظ» - في جانبه الشعري - ومخيال «النابغة الذبياني»، الشاعر والناقد والحكم بين الشعراء في ذلك السوق.
ولذا فقد عملت هذه العناصر على تحفيزه لإعداد محاضرته التي عبرت عن جدل التراث والحداثة في مكوناته الثقافية؛ ليستعيد ويحاور مقولات النقاد القدماء حول «غموض الشعر» وصراعاتهم حول ثنائية (الوضوح - الغموض)، التي تركّزت حول مفهوم «عمود الشعر»، حتى يصل إلى الحوار مع بعض النقاد المعاصرين الذين ينظّرون لبلاغة الغموض، والانتقال من المعنى إلى الإيحاء، ويطرحون مسألة «سقوط الأغراض»، وبعد ذلك يجلس تحت خيمة «النابغة» ليقرأ بعين نقدية حداثية قصائد عدد من شعراء المملكة البارزين، في تلك المرحلة. (محمد العلي شاعرا ومفكرا - ص 275).
جدة:
دعته هذه المدينة الأكثر تعبيراً في بلادنا عن الجدل الخلاق بين التراث والحداثة؛ ليحاضر في ناديها الأدبي؛ فأصغى إلى المحمول الدلالي المهم لمدن الحجاز الحافلة بفاعلية الحضور السياسي والفقهي والثقافي والاجتماعي والشعري وقيم التعايش والتسامح والانفتاح على الجديد وعلى الآخر؛ فقدم محاضرته المهمة عن «مفهوم التراث»، (وسوف نعرض لها في محور آخر من هذه القراءة).
بيروت:
حين لم تفِ متلازمة (الدمام - الوطن) بوعودها الحلمية، في حياة حضارية وثقافية حديثة، قام الشاعر بهجائهما معاً:
(ما الذي سوف يبقى
إذا رحت أنزع عنك الأساطير
أرمي المحار الذي في الخيال إلى الوحل؟
....
...)
لذلك، فإنه منذ سنوات تنوف على العشر كان يبحث عن مستقر جديد كرديف للدمام، يكون متكأً لحراك رحلة الشتاء والصيف. ورغم عشقه ل»مصر» وللنيل إلا أنه حسم خياراته واستقر في «بيروت».. المدينة المثقلة بأوصاف مدينة الحرية والجمال والقلق السياسي والمعرفي.
يسكنها في رحلة الصيف الطويلة، وفيها تنبت أغصان تجربة شعرية تكتب «قصيدة النثر» إلى جانب إبداع قصيدة «التفعيلة»، وفيها تتجلى معاني الانتماء إلى المكان (إنسانياً وعروبياً) خلال حرب إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006م؛ حيث لم يرد مغادرتها تضامناً مع الشعب اللبناني.
وفي (بيروت - لبنان) المكان الأكثر تجسيداً لثقافة التعددية، برغم كل الظروف الصعبة، يستعيد «محمد العلي» علاقته برمز تنويري يعبر عن ممكنات الحداثة الكامنة في التراث، وهو الشيخ حسين فضل الله، زميله الدراسي القديم في النجف، مثلما يجسَر علاقته بأهم رموز الحداثة الثقافية والشعرية العربية المعاصرة، صديقه «اللدود» أدونيس!
ولعل مناخ الحرية الذي تهيأ لشاعرنا على قمم جبال «برمانا» قد أعانه على التأمل وإعادة النظر في بعض وجهات نظره ومواقفه، ومنها موقفه المتحيز السابق من «أدونيس»، فخاطبه بقصيدة لافتة بعنوان «إليه»، لا تنهض على مشاعر «نستالوجيا « الحنين إلى الأصدقاء، وإنما تتوجه إليه كثقافة وكسؤال وكموقف:
«لماذا يراك السؤال أباه؟
ولماذا
إذا السهم قارب نحرك يخضرُّ
يخجل من نفسه
ثم يرتد محتقناً نحو راميه؟
لماذا أخالك نهراً
يقايضه الشجر المرتوي
من عذاباته
بالحجارة؟.. الخ (الديوان - ص 132)
أما حين يأتي الشتاء فإن شاعرنا يغادر موسم «التزلج» على الجليد في «فاريا» ويعود مشتاقاً إلى دفء «الدمام»، وإلى الطرقات التي لوّن مساراتها، بالقليل من الضوضاء، والكثير من الاحتضان!!
(1) (اتصلت بالأستاذ محمد العلي لأستفسر منه عن عنوان المحاضرة وعن مضمونها، وعن سر غيابها عن متن الكتب التي صدرت عنه، فأبلغني بأنه قد نسي عنوانها بالتحديد، أما مضمونها فإنه محاولة لطرح السؤال الذي يتكرر دائماً عن سبب تخلفنا عن ركب الحضارة والحداثة الثقافية والشعرية والاجتماعية، ومن ثم كانت المحاضرة أو الورقة تهدف إلى خلق حالة حوارية في هذا الملتقى عن تلك الأسباب. وقد قدمتها في ذلك الملتقى في عام 1964م، ونُشرت في ثلاث صحف محلية، منها جريدة الرياض، ولكنني أهملتها لأنها كانت كتابة انطباعية وسريعة، ولعل ما جاء فيها قد اختزنته وعبرت عنه في كتاباتي اللاحقة).
أما الأستاذ صالح الصالح فقد أورد في مشروع كتابته عن «جدل الفكر المعاصر في المملكة»، وفي الجزء الخاص بتجربة محمد العلي، أن عنوان تلك المحاضرة هو «الظواهر التي نأت بشعرنا عن الشعر الحديث».
****
هامش:
* مصدر استشهاداتي في هذه الحلقة وسابقتها:
كتاب «محمد العلي - شاعراً ومفكراً (مختارات)»، و كتاب «محمد العلي - دراسات وشهادات»، إعداد الأستاذة عزيزة فتح الله، الصادر في عام 2005م، توزيع دار المريخ للنشر - القاهرة.
وموقع «منبر الحوار والإبداع»، ورابطه http:www.menber-alhewar1.org-index.php
* نشرت هذه المقالة في مجلة «دارين» العدد 21عام 2009م، الصادرة عن النادي الأدبي بالشرقية.
الدمام