بدأت تظهر خلال الأشهر الأخيرة «مجالات إبداع» لا تليق بأمة لها من العراقة ما لأمتنا العربية، التي تدين البشرية لها، ولأسلافها، بكل ما عرفته المدنية والحضارة البشرية من مفردات: من الدين، إلى الفكر المجرد، إلى الكتابة، إلى الأرقام والحساب والفلك، إلى تدجين الحيوانات وصهر المعادن والسيطرة على الطبيعة، إلى تأسيس الدول، وممارسة التجارة، واكتشاف النار... إلخ.
هذه المجالات الجديدة من «الإبداع»، التي بلورتها وطورتها ونشرتها في العالم العقلية الاستهلاكية والتفاخرية الأمريكية، لا تتصل بأي عمل أو فعل مبدع حقا، بل هي تنصب على تحقيق أرقام غير مسبوقة، بغض النظر عن موضوعها. وهكذا صار من الإبداع أن يقذف مغامر مجنون بنفسه بلا مظلة من طائرة، إن كان غيره قد سبقه إلى القفز منها بمظلة. وصار من الإبداع أن يضيع شعب فلسطين ولبنان والجزائر... وقته في صنع أكبر سندويش فلافل، أو أكبر طبق حمص بطحينة، أو كنافة بالجبن، ويقبل أن يكون منافسه في هذه الحالات جميعها العدو الصهيوني، الذي يدعي أن الفلافل إسرائيلية وكذلك الحمص والكنافة. يقال: من لا يستطيع الحصول على حصان لا يبقى له من خيار غير الحصول على حمار. ومن لا يستطيع المنافسة في العلوم والأدب والثقافة والإبداع التقني والصناعة والزراعة والتجارة والتنمية البشرية والطب والسكن ومستوى الحياة، يعوض عن عجزه وتأخره بالمنافسة على الفلافل والحمص بالطحينة والكنافة، ويجعل مؤسسة أمريكية (جينيس) تتكسب من الإشراف على «إبداعاته»، وتعين نفسها خبيرا في أموره، يقيس رسوخ قدمه في فنون حبة الفلافل وصحن الحمص وصدر الكنافة، مع أنه كان سباقا إلى ابتكار نظام غذائي ينصح به الأطباء اليوم في بلدان الغرب جميعها، فليس بحاجة، وهو غارق في حصار إسرائيلي يقتل الأطفال والنساء والشيوخ جوعا وعطشا، لأن يقدم للعالم دليلا دامغا على كذب ما يدعيه من حرمان وموت بسبب الحصار، هو صدر كنافة يتسع لبضعة أطنان من السمن والطحين والجبن والسكر، أو صحن حمص يستطيع خمسون رجلاً السباحة في زيته.
اتقوا الله أيها العرب، ولا تدعوا أحدا يجركم إلى التفاهة، ويوهمكم أن العدو يسبقكم فقط في مجال الفلافل والحمص والكنافة، وأن التفوق عليه فيها يزيل تأخرنا عنه ويجعلنا متفوقين عليه، فتطعمون أنفسكم جوزا فارغا، كما يقال!.
لو تفوقنا على إسرائيل في العلم والتقنية، لهاجمتنا للتو. إنها تقبل تفوقنا عليها في الفلافل والحمص والكنافة، وربما كانت سعيدة به، لأنه يبين كم نحن سذج وكم يسهل علينا إيهام أنفسنا بأننا نحقق انتصارات على العدو، بشهادة مؤسسة أمريكية تقر أن حبة فلافلنا أكبر حجما من حبة فلافل إسرائيل، وصحن حمصنا أكبر مساحة من صحنها، وصدر كنافتنا هو الأكبر في العالم قاطبة!.
دمشق