«لجأ عبده خال لرصيده من أيام الغياب الاضطراري للحصول على إجازة من مدرسته التي يعمل بها معلمًا بجدة، لحضور تتويجه في أبوظبي بجائزة البوكر للرواية العربية2010» هذا الخبر ورد في صحيفة الوطن في يوم تكريم عبده خال في نادي جدة الأدبي، الذي شهد احتفال الوسط الثقافي والإعلامي والأصدقاء و كل محبي الأدب والإبداع بفوز عبده بجائزة البوكر، وحضر تساؤل الدهشة والاستغراب من غياب الجهة التي يعمل بها المحتفى به، غابت وزارة التربية والتعليم بكافة إداراتها ولم تكلف نفسها عناء الحضور حتى تشارك أحد منسوبيها الفخر والفرح بجائزة لم تعد تمثّل عبده خال بل هي إهداء للوطن، احتفاء بالإبداع الذي توّجه ذلك المعلم الذي لم يدخر جهدًا في أداء دوره كمعلم شهد له تلاميذه بغرس حب الإبداع في نفوسهم، لكن وزارة التربية والتعليم كعادة معظم المؤسسات لا تحتفي بالأدب، بل لا تقيم له وزنًا بين بحثها الدائم عن تحسين إداراتها أو تلميع واجهاتها متناسية دورها في دعم منسوبيها، و رعاية المبدعين منهم بتوفير كل الظروف الملائمة للخلق والإبداع، عندها فقط تحضرك مشاهد استقبال اللاعبين أو حتى الشعراء الشعبيين، كيف سيكون حالك أيها الروائي المبدع لو كنت واحدًا منهم، لو كانت جائزتك ليست أدبية بل ميدالية أولمبية أو أتيت حاملاً «البيرق» بعد تصويت القبيلة التي تمنحك فوزًا قد لا تستحقه لأنك الأفضل، بل لأنّ قبيلتك كانت الأكثر صوتًا و تصويتًا!! عندها فقط لن تغيب وزارة التربية ربما عن تكريمك، بل لن تحتاج إلى اللجوء إلى رصيدك الاضطراري من الإجازات، لأنها ببساطة تمنح الرياضي والشاعر الشعبي وغيره إجازات مفتوحة للمشاركة في الأنشطة والمسابقات ليعود إليها بطلاً تحتفل به على مدى شهور أو تزيد، لكن أزمتك الحقيقية أنك حملت قلمًا وكتبت بسلاح الفكر والعقل والثقافة، والمثقف منذ عصور وهو يعاني التهميش و القمع ولا يزال، لكنه يقف دومًا صامدًا أمام تلك القيود التي تفرض عليه فلا يقبلها بطبيعته، فالإبداع لا يزهر في غير حقول الحرية.
إنّ مشكلة المثقف مع قيود الوظيفة من أعقد وأشد المشكلات التي تكشف عن أزمة تشكيل الفكر الوظيفي والإداري لدينا، والذي نتج عنه غربة المثقف داخل محيطه الوظيفي، الذي يقضي فيه ساعات كثيرة يحتمل خلالها أنواع التهميش، والهجوم اللفظي في ظل مجانية الألقاب التي لا يتورع من حوله في إطلاقها من دون وعي بمفهومها كالعلمانية والليبرالية وغيرها، حينها لا تستغرب أبدًا عندما تعلم أنّ شريحة كبيرة من المسؤولين والرؤساء في مختلف الوزارات يجهلون بعمق دور المثقف، بل يتجاهلون تطبيق الأنظمة الرسمية الصادرة بحق الموظف أيًّا كان، فنظام الخدمة المدنية يشتمل على مادة صريحة وواضحة تحفظ حقوق الموظفين وتنظم إجازاتهم، بما فيها(إجازة الأدباء) وأشير هنا إلى حق المثقف في المشاركة في أي نشاط ثقافي أو أدبي داخل الوطن أو خارجه، وفق آلية معينة تحكمها ضوابط لا تحتاج إلى أكثر من خطاب يؤكد حضور المثقف للفعالية الثقافية، لكن كل وسائل الإعلام كانت تبث خبر فوز الروائي عبده خال بالبوكر صورة وصوتا وخبرًا منشورا ورقيا وإلكترونيا باللغتين العربية والإنجليزية، وكلنا سمعنا وشاهدنا إلا وزارة التربية والتعليم التي لا يبرّر لها ولا يغتفر أبدًا هذا التجاهل لا سيما و أنّ المثقف هو سفير لوطنه يمثله في المحافل الأدبية والثقافية، فماذا نسمي هذا؟ بل كيف نقتنع بمنع المثقف وحرمانه من المشاركة في المناسبات الثقافية التي يدعى إليها رسميًا ومع ذلك ليس له حق الحضور؟ عندها كيف يجمع المبدع بين قيود الوظيفة و حرية الإبداع؟
هكذا يصبح المثقف غريبًا داخل بيئة عمله، فيحاول أن يتكيف مع المعوّقات التي تحد من انطلاقه، وتؤخر مسيرته الإبداعية و رسالته التنويرية، تلك الغربة تجعله ممزقًا بين متطلبات الوظيفة وحلم الإبداع، فيظل بين أمرين: إما أن يخلص لإبداعه ويسعى لأداء دوره في المشهد الثقافي والأدبي، و إما أن يستهلك طاقاته في تجاوز قضاياه مع سلطة الوظيفة و قيودها، وهنا يعيش المثقف أزمة حقيقية أشار إليها نجيب محفوظ في أحد حواراته عندما سئل عن تأثير الوظيفة على إبداعه، فأكّد أنّ « الوظيفة تسرق الوقت من الكتابة» وطالب ذات يوم بتفريغ الأدباء للكتابة أو تخفيف ساعات العمل لهم؛ حتى يتمكنوا من استغلال أوقات النهار باعتبارها أعلى فترة نشاط للفرد، وقد كان محفوظ معجبًا بالعقاد لأنه في رأيه» أصبح عظيمًا بلا وظيفة أو مكانة بيروقراطية» فالعقاد ضاق بقيود الوظيفة فتركها وترك المناصب حين لم يحتمل أوامر الرؤساء و تسلطهم، فلم يخضع لهم وصان حريته وودّع الوظائف خوفًا من أن تنازعه الوظيفة عشقه لحريته، ولم يكن وحده من هجر الوظيفة و اختار الإبداع بل نجد أمل دنقل يقول:» أنا لم أعرف عملاً لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عملٍ آخر...» لذا ترك الوظيفة حين ضاق بضغوطها، كذلك فعل إبراهيم المازني الذي عمل مدرسًا لم يحتمل قيود التدريس فاعتزله، وعمل بالصحافة ليكتب بحرية، بعيدًا عن قيود حدّية، وحدود قيديّة، سيكون ضحيتها الإبداع والمبدعون.
والحقيقة التي لا مجال للشك فيها أنّ غياب تفاعل مؤسسات المجتمع مع المثقفين ساعد على تأخرنا فكريًا وثقافيًا بقدر تقدمنا شكليا، ومن أهم أسباب ذلك تلك الأنظمة التي تسير بها بعض العقول الإدارية، فتمارس قمعًا للفكر والثقافة يمنع تفاعل المثقف مع محيطه، ويحد من تأثيره في الآخرين، مما خلق لدى بعض المثقفين عقدة خوف من الجهر بأفكاره ورؤاه التنويرية المختلفة عن نمطية العقلية التقليدية، التي غرست منذ زمن طويل في نفوس الأفراد حتى أصبح كل خارج عنها غير مألوف، فآثر المثقف- الموظف العزلة و الابتعاد عن الحوار الذي لم ولن يسمع الصم الدعاء.
هذه الأزمة بحاجة إلى من يقف فيها موقفًا مسؤولاً يعيد للمثقف حقّه، ويضع الأمور في نصابها، وبالتأكيد تمثّل وزارة الثقافة والإعلام صوتًا صادقًا للمبدعين والمثقفين، وهي مخولة للدفاع عن حق المثقف في التعبير عن رأيه بحرية رافضا أي سلطة تحاول تحجيم دوره، وتمنع مشاركته في المحافل الثقافية، فهل ننتظر من الوزارة العمل الجاد و المشترك مع الوزارات الأخرى لتنظيم مشاركة المثقفين؟ وتفريغهم للعمل الثقافي والإبداعي أسوة بدول أخرى تضمن لمثقفيها ذلك الحق، فإذا كان الأمركذلك فعلى المبدع أن يبتهج بمستقبل ثقافي يتوافق مع أحلامه ويرتقي بطموحه، فحين نؤمن بالإبداع لن نجد من يصادر حق عبده خال أو غيره في الفرح بفوزه أو السعي لتكريمه في وطنه قبل أن يكرمه الآخرون، فلم نعهد ثقافتنا العربية على مر العصور جاحدة لأبنائها، بل صنعت في فترة من فترات التاريخ أعظم حضارة في تاريخ العالم بفضل علمائها ومفكريها و فلاسفتها و أدبائها، عندما كانت تنزل أدباءها منازل العظماء، وعندما كان يتسابق أبناء الخليفة على تقديم خفي الأستاذ، وعندما كان المبدع ينال وزن إبداعه ذهبًا، إذا قدّرنا الإبداع و كرّمنا المبدعين ستشرق حضارتنا كما كانت، أم ستظل دائرة التجاهل والإهمال تحيط بنا حتى نصحو وقد فقدنا أعظم مبدعينا، فنسعى للتأبين بعد أن غاب التكريم!!
جدة