جهوده في الترجمة
لعلي قبل الحديث عن جهود الأستاذ الكبير عزيز ضياء في الترجمة، أقول إنه عنى كثيراً بترجمة الأدب العالمي إلى العربية، نتح عنها كتب تولت شركة - تهامة - نشرها قبل نحو ثلاثة عقود، ولا ريب أن هذا العمل الذي قرأناه بلغتنا قد اقتضى من الأستاذ عزيز جهوداً كبيرة ووقتاً طويلاً، ولكنه أثمر فيما نقل إلى العربية من أدب الغرب، نقله بإتقان ولغة عربية مشرقة الديباجة والأداء.. وإذا كنت لم أعثر إلا على خمسة أجزاء مما نشر ونقل عن الفكر الغربي، فإن كتابه الذي عنوانه: «جسور إلى القمة»، فيه مقالات نقلها عن الإنجليزية لأعلام من الغربيين،.. وأشير إلى أن كتاب - جسور إلى القمة - جمع إلى ترجمة نصوص من فكر الغرب أحاديث في مساحة مقالات، عن الشيخ عبد العزيز البشري، ابن زيدون، الفارابي، إبراهيم عبد القادر المازني، عبد الله بن المقفع، أبو محمد القاسم بن علي الحريري، أشعب بن جبير، بديع الزمان الهمذاني، إبراهيم ناجي، كتاب البخلاء للجاحظ، الدكتور طه حسين، أحمد شوقي، الخليل بن أحمد الفراهيدي، شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن محمد المقري، حمزة شحاتة، عمر أبو ريشة، ابن سيناء، عبد الرحمن شكري، ابن بطوطة، أحمد بن حنبل، أبو الطيب المتنبي، أبو فراس الحمداني، لامية العرب، أسرة كل أفرادها شعراء، هي أسرة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، السندباد، موسيقار الأندلس «زرياب»، الحطيئة، أبو حيان التوحيدي، ابن رشيق القيرواني، طوق الحمامة في الإلف والإيلاف.
إن هذه المقالات ربما تكوّن كتاباً مستقلاً في قراءة أديبنا؛ التي جمعت أعلاماً من الشرق والغرب... وأكبر الظن أن كاتبنا هو الذي أراد دمج هذه النصوص في حديثه عن أعلام من الشرق والغرب، ولم يكن الأداء أو هذا الدمج من صنع تهامة.. ومن خلال متابعة إنتاج الأستاذ عزيز ضياء الجيد كله، سواء المترجم أو مقالاته عن نماذج من أعلام العرب التي ذكرتها، لا نجد للأستاذ ضياء دراسات عربية عدا مقالات نشرها في مجلة الإذاعة قبل عقود تعنى بأدب الأستاذ محمد حسن عواد عنوانها «المصفاة».. ولعل الأستاذ ضياء صرف عنها النظر بعد لقائه بالأستاذ العواد في الرياض وتقدما معاً لإقامة ناد أدبي في جدة قبل ست وثلاثين سنة، يوم ميلاد الأندية الأدبية في البلاد.. إذا فالأستاذ الكبير عزيز ضياء ما عدا المقالات العربية التي ذكرت عناوينها ومقالات صحافية كتبها وهي ليست قليلة، رأيت أن أديبنا توجه إلى أدب الغرب قراءة ودراسة، وهو ما نقل إلى اللغة العربية، من خلال لغة جميلة التركيز والصياغة والإمتاع تليق بالكاتب المجيد، وكذلك الأعلام الغربيين، تحدث عن أدابهم، ونقل منها كتباً ومقالات كما أشرت إلى ذلك آنفاً.. من خلال حديثي أو مسامرتي في هذا النادي العزيز، الذي أتاح لي منبره مشكوراً بعض الوقت للحديث؛ ولا أزعم أنه شمل بعض ما كتب الأستاذ عزيز بلغته وما نقل من أدب الغرب، ولكنه جهد المقل بالنسبة لي الذي لا يفضي بالإحاطة إلى ما صدر لأديبنا الكبير رحمه الله..
من أعماله المترجمة
عهد الصبا في البادية
تلقائيا بدأت بقراءة هذا الكتاب، ربما الدافع إلى ذلك البادية، وربما لأن النص الإنجليزي كاتبه رجل عربي مسلم، مؤلف النص الإنجليزي «إسحاق الدقس».. والترجمة التي كتبها أديبنا الكبير عزيز ضياء طبعتها شركة تهامة مع عناوين أخر.. وتاريخ نشر - عهد الصبا - كان عام 1400هـ - 1980م عبر سلسلة مطبوعات تهامة التي كان عنوانها: الكتاب؛ العربي السعودي.. وقد أعجبني كاتبنا الكبير وهو يتحدث عن مؤلف هذا الكتاب وكذلك ما تناول من ترجمات لقمم من مثقفي الغرب، منهم: اسكاروايلد، سومرست موم، تاغور، بول بورجيه، جوهان فون شيلر، جوته، فيكتور هوجو، ليونارد دافنشي، لويس كارول، جين دي لافونتين، باسكال، جون كيتس، راسين، فيرجيل، تشايكوفسكي، جوربارناردشو، الكسندر سولجينستين، ناسوناري كواباتا، رابندرا نات تاغور، اسحاق نيوتن، ديكارت، أونوريه دي بلزاك، ايميلي برونتي، أولدوس هكسلي.. وأبادر إلى القول إلى أن هذا الحشد من الأسماء أكثرها ترجم لها الأستاذ مقالات ضمن كتابه: «جسور إلى القمة»..، صدر عن تهامة عام 1402هـ - 1981م. ضم أسماء عربية من الإعلام.. وعدد الكتب الكاملة منها خمسة، ولا أدري إن كان ثمة غيرها، لعدم العثور عليها اليوم، ومرور نحو ثلاثين سنة على صدورها.. - التي ترجمها الكاتب عن الإنجليزية إلى العربية.. وأستطيع القول إنني استمتعت بقراءة نصوص نقلها الكاتب عن الإنجليزية إلى لغتنا العربية، وهي عربية شائقة، ذات دلالة على إتقان كاتبنا للغته واللغة التي نقل عنها، نقل الكاتب المجيد كما خيّل إلي بانشراح نفس وبهجة، مما يدل على أنه يتحدث بإمتاع يدل على تذوقه لما ينقل إلى القارئ العربي أدباً أكثره متميز في الإنجليزية، إن كاتب «عهد الصبا في البادية» شاب من فلسطين رد الله غربته من الصهاينة الغاصبين، الكتاب أصدرته تهامة عام 1400هـ - 1980م.. ونقرأ في صدر هذه القصة أو السيرة الذاتية، أن صاحبها كما قال الأستاذ عزيز: شاب اسمه «إسحاق الدقس»، من مواليد عام 1938م. «قد التحق بمدرسة ابتدائية، ولما بلغ السابعة عشرة من العمر، درس في المدرسة الزراعية»، وقد تخرج فيها بدبلوم في الزراعية.. ثم جاء إلى الرياض وعمل مدرساً لمدة ثلاث سنوات في إحدى المدارس الابتدائية في الرياض، ثم التحق بخدمات التوسع الزراعي في المملكة، ودفعه طموحه إلى الانتساب إلى كلية الآداب بجامعة الملك سعود؛ وفي عام 1965 نال البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، وقد كتب قصة حياته بالإنجليزية قبل التخرج في جامعة الملك سعود بأربعة أشهر..
إن الرحلة مع صاحبنا متشعبة رغم أن صفحاتها في الكتاب هي مائة وسبعون - قطع كبير -، وحال هذا التشعب أو الرحلة المضنية، مردها الاحتلال الصهيوني الذي مزق أمة تقتيلاً وتشريداً، وقد عشت ساعات مع ترحال وحياة الأخ إسحاق الدقس، وحصول المترجم الأستاذ عزيز على كتاب عهد الصبا كما قال في المقدمة، حينما كانت ابنته دلال عزيز ضياء تدرس في السنة النهائية من مرحلة البكالوريوس في جامعة الملك سعود، فقال إنه شده عنوانها فاستعاره من ابنته ليلة، ومن تصفحه له رأى أن ينقله إلى اللغة العربية، لأن هذه القصة خليقة أن تترجم، ولعل مرد ذلك أنها قصة كفاح، وقد علمتنا الحياة أن حياة المعاناة يعنى بها الذين يتابعون حياة الشعوب الكادحة؛ لا سيما التي تفضي إلى النجاح وإلى التفوق، لأن النضال نحو هدف قويم؛ جدير بأن يشوق الباحثين عن النجاح وسبله لا سيما حين تكون صعبة، لكنها لدى الطامحين ليست كذلك! ونقرأ قول الأستاذ عزيز إن هذا الكتاب اختفى بعد الليلة الأولى لتقليب صفحاته، اختفى مدة عام بين الكتب.. والكتاب استعارته الأستاذة دلال من جامعة الرياض - الملك سعود -، مما يثير القلق والحرج كما قال الأستاذ عزيز، وحين عثر عليه أسرع إلى ترجمته، لكنه لم يستطع طباعته على حسابه لأن حال الأديب بعامة لا تعين على المغارم، وهو شأنه، وقديماً قالوا إن من تدركه حرفة الأدب يدركه الفقر، وما تزال الحال على منوالها لدى الكثيرين، لا سيما أن الكتاب في أكثر الأحوال ليس له عائد.. وقيّض الله للأستاذ عزيز ضياء الأستاذ محمد سعيد طيب مدير عام تهامة يومئذ عبر حديث مع أبي ضياء، استعداد تهامة بطباعة عهد الصبا وكتباً أخرى له ترجمها ونشرتها تهامة في عهد الأخ محمد سعيد طيب، هذه الشركة نشرت الكثير، لكن الإنفاق الكثير المتصل لم يحقق عائداً يوازي ما أنفق وما بذل من جهود عبر سنوات وأيام طوال!
إن كتاب عهد الصبا في البادية تلاقت فيه حالتان، الأولى كانت حياة البادية في أرضها رخيصة، فكانت تعتمد على تربية الماشية وزراعة القمح والشعير، وكانت الفواكه وكانت تربية الخيل والفروسية في المناسبات ومنها الأفراح، كانت حياة هانئة وادعة، من معطيات خيرات الأرض والأمن والأمان والاستقرار، حياة كريمة، وحياة البادية محببة حتى لغير أهلها، فيها الجود والبساطة والضيافة بين القبائل والطارئين، والمناخ الجميل في فصوله، وأنا أعي هذا النمط من الحياة لأني عشتها طفلاً، ورأيت كرم البادية حتى في الأيام العسيرة بالحروب، فهي حياة حافلة بالخير والبساطة والخصال الحميدة.. غير أنها تغيرت في الأرض المحتلة، تغيرت منذ أيام ما قبل (1967)، فهي كما كتب إسحاق الدقس عن أيامه وقبيلته والقبائل الأخرى في أرضها، ذلك أن زحف المحتل المتشعب الغاصب امتد عبر كل الأبعاد؛ فأصبحت الحياة كرباً وعسراً لا يسر فيه، وكما ندرك كانت الأحداث تتجدد، لأن العدو الغاصب أطماعه ليس لها حدود، كانت شكوى الكاتب يومئذ والحال فيها نبض ويسر، وإن كانت الأيام المتجددة تعروها المنغصات من عدو محتل غاشم ليس لأطماعه حدود، لكن الحال يومئذ كانت أقل خطراً وإن كان القلق يتجدد؛ فالحياة كان فيها شيء من سعة وآمال.. إنما بعد 1967م، أصبحت عسراً في عسر، وقدرت لو أن الكاتب كتب عهد الصبا أيام الاختناق والبؤس والكرب الذي لا حدود له.. لو أنه كتب أيام أمته اليوم وقبل اليوم، لكان العويل والضنك والكرب الذي لا نهاية له ولا توقف، فعهد الصبا كان خيراً ويسراً ورخاء، أما حياة شعبنا في فلسطين اليوم نقول ونردد: ليس لها من دون الله كاشفة، وحال اليوم على أرض إسحاق الدقس لا يقاس عليها، نسأل الله أن يفرج كرب هذا الشعب الذي يتحدى قوى لا يملك منها شيئاً، لكنه يملك إرادة الأبطال الذين يتحدون المستحيل ضد عدو تاريخه أسود منذ نشأ، والله هو الذي يكشف الغمة بقدرته ويشد أزر شعب صموده يبعث على الفخار والعزة، نرجو الله أن ينصره على عدوه وكيده وخسته وغدره، إنه على ذلك قدير بنصر أمة باسلة لا تركن إلا إلى الجهاد والأمل في نصر خالقها على عدوه وعدوها..
وبعد:
فإني وددت وما تغني الودادة كما يقولون، وددت أن يمتد حديثي إليكم، غير أني أدركت أن الوقت لا يتيح لي أن أطيل، وأرجو أن يتجدد هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه، لأتحدث عن جهود أديبنا الكبير عزيز ضياء في الترجمة وحدها، على ما أنجز ونشر من الإنجليزية إلى العربية، وأعتذر عن التقصير، شاكر لكم صبركم عبر هذه الأمسية في دار الهجرة المباركة، على ساكنها أزكى الصلوات والتسليمات، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار..
توفي عام 1418هـ
جدة