والإجابة لدى الغذامي نفسه. ف(حلقات...) التي وعدنا بها، بهذه الصيغة المحققة لكثرتها وتتابعها، لم تجاوز حلقتين، الأولى بعنوان: (الحرف واللون)، والثانية بعنوان: (الأنا النصوصية)، والحلقتان مكملتان للعدد خمسة، وهي مجموع ما كتبه الغذامي عن شعر العروي.
يفتتح الغذامي هذه القراءة/ المقالة (الحرف واللون) بقصة من كتب التراث الأدبي, (تروي أن غلاماً وقف متحدياً المعري ومحرجاً له حينما سمع قوله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
حيث قال الغلام للمعري: إن الأوائل جاءت ببضعة وعشرين حرفاً، فأت أنت بواحد فوقها.. وتقول الرواية: إن المعري بُهت وسكت) (10). وينتهي الغذامي من خلال توظيفه للدلالة الرمزية لهذه القصة إلى (أن علاقة الأخير مع الأوائل علاقة إعجاز وانجاز, ومن علاقة الإعجاز والإنجاز تأتي قصائد حسين العروي بوصفها انتظار ما لا ينتظر، وهو هنا لا يأتي من خارج اللغة، ولكن ينبت من داخلها متسللاً في مساربها الداخلية جداً والدقيقة جداً، وينطلق من الحرف, والحرف هو اللبنة الأولى في الكيان اللغوي..) (11) ويتوقف عند قوله:
سافر ففي عينيك حرف ظامئ
وتشرد ومرارة تستوطن
وخذ الحروف وكن جحيماً شاعراً
إن الحروف مشاعرٌ تتلون
ويعقِّب على ذلك بقوله: (.. هذا الحرف الظامئ من جهة، وهذه الحروف التي هي مشاعر تتلون من جهة ثانية، هي معضلة الشاعر التي ظلت تتكرر في الديوان كله وسيطرت على دلالاته، وصارت بالنسبة إليه هي معنى المعنى وصوتيم الديوان..) (12) ثم يقول: (هنا يعيد صياغة المعري؛ حيث يأتي بغير ما أتت به الأوائل..) (13).
ويمضي الناقد يعرض في إضاءات خاطفة بعض ما سنحت له به لحظة الذهول وما وقر من أثرها الدلالي والجمالي في نفسه, وينتقل في هذه الإضاءات من الحرف إلى اللون, فيقف عليه في أبيات للشاعر يقول فيها:
يا ربيعي إن عمقي مقفرٌ
ولياليَّ كنبض الكفن
وصباحي مثل لوني باهتٌ
رسمته ريشة من حزني
يصبح الحرف أنيناً (أصفرا)
يتمطي في زوايا مدني
قد أكون اليوم شوقاً عاثراً
يتهاوى في دروب الفتن
فرحة ممطرة أطلبها
ربما أزرع فيها وطني (14)
ويعلق على هذه الأبيات بقوله: (.. هذه هي اللحظة الشاعرة، فرحة المطر والشعر والسفر والخيول؛ حيث يحمل الشاعر وطنه على كتفه باحثاً عن الفرصة الممطرة ليغرس فيها نبتته.. والشاعر لا يزال يبحث عن الحرف, وعن لون يلون به هذا الحرف، وهذه هي قضية الديوان، وهي مشكلته، لذا ابتدأ الديوان وانتهى وهو يناشد الحرف ويسائله، ولقد صار الديوان انتظاراً لحرف لا يُنتظر, واستشرافاً للون لا يُستشرف، وبطلا أمام ذلك السفر والخيول والمطر, وصارت كلها من أجل الحرف الذي هو تاريخ الشاعر وموطنه الغزير وجواده المضيء، وإن جاء به فسوف يأتي بما لم تستطعه الأوائل..) (15)
ونجد أن محور هذه المقالة يدور حول تأكيد التفرد والاختلاف في هذه التجربة، والتقاطات الناقد النصية المكثفة تحيل إلى مثل هذا المعنى، وإن كان بذلك الاقتصاد في التحليل متمحوراً حول ما الحرف واللون، وكيف اتسقا في بناء النص, ووُظفا في نسيجه. محيلاً إلى النتيجة التي استقر لديه فيها: إن الحرف واللون هما قضية الديوان.
في المقالة الأخيرة (الأنا النصوصية) يعيد الغذامي تناول أبيات الغلاف الأخير:
لوني رموزٌ.. فلا تستبطنوا لغتي
حتمٌ عليَّ رحيلي المر منفردا
هذي سبيلي.. متاهاتٌ مبعثرةٌ
على الحروف.. وموجٌ يزرع الأبدا
ويقول: (هذا الموج الذي يزرع الأبدا هو النسيج الذي يبدأ من الغلاف الأول للديوان؛ حيث تجد النص الأول ولا ينتهي - أقول: ولا ينتهي- بالنص الأخير على الغلاف الأخير، وهما معاً نصان بلا عنوان، مما يجعل الديوان كله بلا عنوان، ولكنه يبدأ بنص وينتهي أخيراً إلى نص، والذي كان عنواناً - حسب الظاهر والمعتاد - يتحول إلى نص بلا عنوان، أي أن العنوان بلا عنوان؛ وبالتالي فإن الاسم بلا اسم واللون بلا لون، والحرف بلا حرف، والجميع نسيج تتشكل منه متاهات مبعثرة، لا تستبطن بما أنها لغة كالمعهود من اللغة، ولكنها لغة بلا لغة، لغة من نوع خاص هي منظومة من الإشارات الحرة تشكل حجرة من العلامات السيميولوجية، والمدلول فيها يصبح (الأنا). ولذا فإن القارئ في هذا الديوان يتحول إلى ذات نصوصية، تتداخل مع النص، وتندمج الأنت مع الأنا، ويزول الانفعال التقليدي بين المبدع والقارئ، ويكونان معاً ضميراً واحداً، يتكلمان بصوت واحد على حرف واحد ومع لون واحد.
ولكن ذلك كله في إشارات متداخلة؛ فالشاعر إشارة، والقارئ إشارة، والنص علاقة سيميولوجية بين إشارتين حرفين، مع حركة تجعل اللون رموزاً وتبعثر الحروف..) (16)
فهل أدخلنا الناقد البنيوي في حيرة وذهول, كالتي انتهى إليها بعد الدوار الذي أصابه عند قراءته لشعر العروي؟.
أم ضاقت به قسمة تطبيق النظرية على نصوص الشاعر؟ أم كانت مقاربته لها في إطار رؤية نقدية متعالية في أدواتها ومنهجها الإجرائي ومنطلقاتها النظرية؟
هل هو هذيان المحموم الممسوس بالرعب والدوار, وهو لا يفتأ يكرر: إن هذا الشاعر مختلف..! أو يتساءل: أي شعر هذا؟.
هل وقفت هذه المقالات الخمس على سر الفرادة النوعية, أو الشعرية المختلفة في هذا الديوان؟.
هل استغلقت نصوص العروي بمفارقتها للسائد, ونظام بنائها وتشكيلاتها النصية والإيقاعية ومجالاتها الدلالية، وبملامستها العميقة للذائقة الجمالية للناقد، فذهب يضع بينه وبينها الحواجز؛ لكي يقاربها بوعي الممسوس بالدوار مرة.. وبأدوات الناقد البنيوي مرة أخرى؟
أم اقتنع الغذامي بأن اسمه الكبير, وحضوره النقدي المسؤول، وقيمته الأدبية بوابة عبور تدمغ التجارب بختم التفوق والتفرد، واكتفى بذلك؟
وهل تحتاج تجربة العروي - وهي بتلك القيمة - إلى إشهار حضورها, والتبشير بها, أو التقديم لها بما يرفعها إلى مستوى عناية الناقد الكبير؟.
وأيهما يمنح الآخر التميز..؟ الناقد بحفاوته بتجربة جديدة مختلفة؟ أم التجربة الشعرية ذاتها, بما تحققه لمن يكتب عنها من أولية المبادرة, وتفوق الذائقة, والعناية بالحقيقي والمتميز المثير للإعجاب والمستحق للتقدير من التجارب؟
ولن نخلص إلى إجابة على ذلك, ولن نتأولها أو نفتعلها, وإنما نؤكد على أن قراءة الغذامي ليست أول القراءات التي قاربت شعر العروي, بل من أهمها. ومن علامات أهمية هذه القراءة أنها جرَّت ناقداً آخر, هو الدكتور عبدالله المعيقل، للحديث عن تجربة العروي.
وقد استثير المعيقل لقراءة شعر العروي بسبب الغذامي؛ لأنه كتب عنه: (إنه شاعر مختلف ذو وجه مختلف.. ليس بالعمودي، وإن اتخذ شكلاً عمودياً، وهو ليس بالحداثوي وإن تفتحت اللغة فيه تفتحاً حديثاً، إنه غير ذلك وذاك، إنه نص مغاير ومختلف.. ومن هنا فإن حسين العروي يأتي قادماً إلى ديوان العرب بأدواته الخاصة ووسيلته الذاتية..) (17). ولأن للغذامي سطوته، ولرأيه قيمة معتبرة لدى زملائه وقرائه، يقول المعيقل: (.. هذا الاحتفاء الذي يصدر عن الدكتور عبد الله لا بد أن يثير فيَّ الاهتمام...) (18). ثم يبدي المعيقل ما عدّه (ملاحظات أولية وسريعة بعد قراءة وحيدة للديوان).
ويقول: (أتفق مع الدكتور عبد الله على أن هذا الشعر مختلف، لكن درجة وأهمية الاختلاف تظل قابلة للنقاش.. وقد استرعت انتباهي لغة الشاعر حقاً - فالشعر لغة - فقاموسه الشعري ثري جداً، وتعامله مع الجملة الشعرية غير عادي، وهناك محاولة للوصول إلى اللغة الحلم في الشعر.. ولقد استرعى انتباهي أيضاً تكرار كلمة السفر ومترادفاتها من أسماء وأفعال وصفات في هذا الديوان بكثرة من مثل: إني راحل، سوف أرحل، أنا سفر، وحدي على الدرب، الهوى سفر، سيرحل، شوقي مسافر، سافرت بي الظنون، فعانقني الرحيل، الوداع..) (19). وفي نهاية المقالة يؤمِّل الدكتور المعيقل ألا يكون قد وقع فيما خاف منه بهذه الملاحظات السريعة, التي تحتاج إلى مزيد من النظر والتوضيح بالأمثلة والشواهد, ويلقي أمله على الدكتور الغذامي بقراءة ممتعة ومختلفة (20).
فهل جاء المعيقل بجديد غير ما قاله الغذامي؟ وهل أحال ملاحظاته السريعة على الشاعر أم على الناقد، يحمله مسؤولية إثبات اختلاف التجربة الشعرية للعروي وفرادتها؟.
ويجدر بنا أن ننبه إلى أن ملاحظات الدكتور المعيقل لم تأت في سياق قراءة خاصة للديوان، بل في سياق التعليق على جملة مواد ومقالات في ملحق ثقافة اليوم بصحيفة الرياض, كان من بينها قراءة الغذامي لديوان العروي. ومع أن الحديث عن شعر العروي قد استغرق كثيراً من هذه القراءة إلا أنها ظلت تلقي الأمل على الغذامي في استتباع واستكمال حديثه عن تجربة الشاعر، إلا أن الغذامي لم يفعل، واكتفى بالحلقات الخمس التي تناول فيها شعر العروي، ممتثلاً لحالة الذهول والدوار والدهشة، مكتفياً بإشهار إعجابه الكبير باختلافها ومفارقتها لمألوف التجارب التي سبقتها أو زامنتها.
المدينة المنورة