في هذا الكتاب، وفي موضعين متباعدين، وسياقين متغايرين، يورد السبيل نصين مقتبسين: أولهما عبارة للرائدة خيرية السقاف تقول فيها «إن كلماتي جسر بين التراب والورق». والمقتبس الثاني هو بيت شعري لنزار قباني يقول فيه:
وإذا قسوت على العروبة مرة
فلقد تضيق بكحلها الأهداب
ولأن الاقتباس اختيار، وعندما يصحبه نوع من القبول والإعجاب، فإنه يمثل دعماً إيديولوجياً لرؤية الذات الكاتبة. وفي تصوري فإن هذين المقتبسين يمثلان عيني الروح المفكرة والرائية في كل مقالات هذا الكتاب: في السطور وفيما بينها، ضمنيةً وكامنة تارة، أو ظاهرة ومصرحاً بها تارة أخرى. ومن الشائق أن المقتبسين كليهما يدوران على مرتكز محوري جامع مشترك: إنه محور (الهوية الثقافية) حيث الرمز إليها بدالّة (التراب) في المقتبس الأول، وبدالّة (كحل الأهداب) في المقتبس الثاني. التراب هو المكان مؤولاً بعطاء إنسانه الحضاري، والكحل هو مجاز الجمال في تجلي رؤية العين الثقافية. ومن ثم فإنَّ الهم الضمني الكبير في هذا الكتاب، والجسر الذي تحاول مقالاته تشييده هو: كيف يمكن إقامة فضاء لتراب الهوية الثقافية العربية المعاصرة، ومعطياتها القادرة على إنجاز مشروع حضاري؟ وإزاء هذا الانشغال الحيوي فإن أهم ما يتبدى جواباً عن هذا السؤال على امتداد صفحات الكتاب هو أن يكون هذا الجسر قائماً على تلك (القسوة) المطلوبة البانية. إنها قسوة وعي الرؤية النقدية التي تنأى عن خطاب الكحل المزيَّف والمزيِّف مما ينهض على دغدغة السائد العرفي، أو مهادنة العاطفي الاجتماعي، أو اللواذ بمأمونية سياسية قد لا تكون مما يرغب فيه السياسي نفسه. إذن السؤال الأعم الساري في الكتاب هو: كيف تنهض الهوية الثقافية للعروبة بوصفها مشروعاً أصيلاً وجميلاً؟! وهنا لا بد أن نتوقف عند الكيفية التي جسد الكتاب بها قسمات معايير الوعي بهاتين الصفتين اللتين تبدوان للوهلة الأولى صفتين بلا ضفاف.
بدءاً من عنوان الكتاب ينهض الحس التاريخي بقضية الهوية. فالعنوان (عروبة اليوم) يُسنِد مفهوم (العروبة) إلى لحظة تاريخية هي الحاضر. ولا شك أن هذا الإسناد يفضي إلى مغايرة مع (عروبة الأمس) التي جعلْنا مجدَها قيداً على حاضرنا «فلا نملك سوى الترجيع والحنين والبكاء على الأطلال... والاحتفاء بأمجاد صنعها الآخرون»(ص156). ولكن الضمني هنا أيضاً هو أن هناك (عروبة الغد) التي يخشى السبيل أن يأتي فيها جيل الأحفاد ليسائل آباء عروبة الحاضر بتقريع: ماذا صنعتم لأنفسكم ولنا؟(ص157). وهنا لنا أن نتساءل: كيف رسمت مقالات الكتاب إشكالية مفهوم (العروبة) عبر آفاق هذه الثلاثية التاريخية: الماضي والحاضر والمستقبل؟
في المقالة الأولى، وبدءاً من السطور الأولى، يضعنا الكتاب أمام إشكالية الهوية وهي في معترك سياقها التاريخي الذي بات يُسمَّى (عصر العولمة). وهو له مغزى مهم هنا أن الكاتب ينطلق في مواجهة هذه الإشكالية بدءاً من أشد المواضع قابلية لافتراض الثبات؛ وأعني بذلك: المكان. تقول السطور الأولى: «السائر في معظم المدن العربية اليوم، الحديثة منها بشكل خاص، تهيمن عليه حالة من الغربة، غربة المكان، غربة الهوية، غربة النمط المعماري، غربة السلوك الاجتماعي؛ فهذه المدن غدت تضاهي كبريات المدن في أوروبا وأمريكا. وينظر البعض إلى ذلك على أنه تحول مادي فقط. والحقيقة أن عولمة المكان التي نعيشها قد امتدت إلى معظم جزئيات أنساق حياتنا، وأكثرها قد حدث بشكل تدريجي، جعلنا نبرره بأن حياة اليوم ليست كحياة الأمس. وهذا بيت القصيد. فقد أصبحنا جزءاً من هذا العالم، ورياح التغيير فرضت نفسها. لكننا لم نطرح بعد بشكل جِِِدي قضية الهوية الخاصة بنا بصفتنا مسلمين وعرباً، وأصحاب أعراف وتقاليد حددتها خصوصية المكان والتاريخ» (ص9). هذه الفقرة الافتتاحية تقرر حقيقتين هما طرفا إشكالية الهوية الثقافية لعروبة اليوم: الحقيقة الأولى هي أننا «أصبحنا جزءاً من هذا العالم، ورياح التغيير فرضت نفسها». والحقيقة الثانية هي أن لنا «هوية خاصة بنا بصفتنا مسلمين وعرباً، وأصحاب أعراف وتقاليد حددتها خصوصية المكان والتاريخ». ومؤدى ذلك أن الهوية باتت بين قطبين هما قطبا الثبات والتغير. قطبا الخصوصية وعالم الآخر العولمي. ومن ثم فإن الأمر مفتوح على عدة احتمالات. يقول السبيل هنا: «العولمة أمر قائم... قد ينظر إليها البعض بوعي أنها أمر فرض نفسه، ومن مصلحتنا التعايش معه. وهناك آخرون يسيرون في الركب ويهرولون نحو التغير دون وعي بما يجري. وآخرون ينادون بالرفض والتقوقع، غير واعين أنهم غدوا في وسط معمعة التحول»(ص11). ومن الواضح من خلال ما يطرحه كتاب السبيل أنه يدرك الخطر في احتمالين: احتمال الانغلاق على الخصوصية، أو احتمال الانفتاح والانخراط غير المشروط في مشروع العولمة. يقول: «إن إغلاق الباب أو النافذة حيث تأتي الريح أمر لم يعد له مكان بالمنطق المعاصر»(ص11). ثم يشير إلى «ضرورة الحد من مد الهيمنة الفكرية والاجتماعية والثقافية بنموذجها الغربي»(ص12). رفض الاحتمالين معاً يفضي إلى مطلب السؤال: وما الحل البديل؟ ولكن قبل أن يطرح السبيل مقترحه الخاص هنا فإنه يقوم أولاً بجملة من نقاط النقد الذاتي الذي يراه ضرورياً لتتخلص الأمة من آفات عائقة وفادحة. ومن ذلك آفة «الشجب اللغوي، والرفض القولي، والغضب الآني». فكل ذلك وإن كان يصدر عن شعور صادق فإنه لن يجدي نفعاً. ومن ذلك أيضاً آفة أننا «نحاول أن نقدم أنفسنا بالصورة التي نتمناها وتتحدث عنها مثاليات تراثنا». فتلك المحاولة لا تجدي لأنها تتناقض مع واقع مرير تعيشه الأمة» على مستوى التعليم والثقافة والحرية وأنظمة الحكم»، وهذا الواقع مكشوف ومقروء ومعروف لدى الآخرين. أما الآفة الثالثة فهي أن «الصوت الأقوى في قضايا الأمة الأساسية، وهي قضايا تتصل بالعقيدة والهوية، وحقوق الإنسان والمرأة، ونظام الحكم، وسياسات التعليم، وأطروحات الثقافة، يكون لأنصاف المتعلمين الذين تنقصهم المعرفة الواسعة بما يطرح على الساحة الفكرية، وبواقع المجتمعات المختلفة»(ص17).
ومن ثم يتجه السبيل مباشرة إلى مقترحه الخاص. يقول: «أجزم أننا بحاجة إلى بلورة صيغة عربية وإسلامية واحدة يمكن أن تعبر إلى الآخر بصيغ متعددة. غير أن ذلك يحتاج إلى أمرين:
1- أن تتخلى المجتمعات العربية المجزأة عن خصوصياتها الضيقة، وتقبل بالعامل المشترك الأكبر لهذه الأمة.
2- أن تكون الصيغة فكرية وثقافية تنأى عن الهيمنة السياسية الجزئية لكل قطر عربي ص15. ومن الواضح أن مقترح السبيل هذا يمكن تركيزه في عبارة واحدة هي ضرورة الإيمان العميق بإستراتيجية (التنوع في إطار الوحدة)، ومن ثم النهوض بالتخطيط العملي الإجرائي لتجسيد هذا الإيمان. وهنا آتي إلى السؤال الكبير الذي أريد طرحه على هذا الكتاب وهو: هل يتسق كل ما ورد في صفحاته من آراء ومواقف وأفكار مع هذا المبدأ: أعني مبدأ الإيمان بالتنوع داخل الوحدة؟ وبصياغة أخرى: هل الذات الكاتبة عن الهوية الثقافية للأمة هي نفسها تصدر في فكرها عن مبدأ (الإيمان بالتنوع داخل الوحدة).
إن قراءة تتبع أفكار الكتاب -على تنوع حقولها الثقافية ومجالاتها الفكرية- تكشف عن جملة من الاتساقات مع مبدأ الإيمان بالتنوع داخل الوحدة بوصفه المبدأ الباني والمؤسس لمشروع الهوية الثقافية للعروبة. وسأكتفي من هذه الاتساقات بما يأتي:
1- التنوع يستلزم الإيمان بالتعددية والاختلاف: وفي الكتاب اطراد واضح لرسوخ هذا المنطلق. وسآخذ تمثيلاً لذلك قول المؤلف: «إن الشخص المماثل في آرائه وأطروحاته لن يضيف جديداً... إن القيمة الكبرى تكمن في الحوار مع أصحاب الرأي الآخر»(ص95). ويتجلى هذا الترسيخ للتعددية في مقالة «المناهج وتعددية الآراء» حيث يسمي السبيل «سيادة الرأي الواحد، والبعد عن التعددية في الأفكار والآراء» بالمنهج الخفي الذي يأمل المؤلف ألا يكون مقصوداً في مناهج التعليم.
2- الإيمان بالتنوع وضرورته لمشروع النهوض يستتبع الإيمان بحقوق كل الفئات الاجتماعية، وبصفة خاصة المرأة والطفل. وهنا يمكن الرجوع إلى عدة مواضع ومقالات في الكتاب منها مثلاً مقالة «المكتبة العامة» ومقالة «المرأة والتحولات الاجتماعية» ومقالة «خيرية السقاف ورحلة الإنجاز».
3- الإيمان بالتنوع يفضي إلى إيمان بقيم التسامح الديني. يقول السبيل: «إن اختلاف الرؤية أمر موجود ومشروع في ديننا، بل إن اختلاف الأئمة رحمة. وإذا كان الأمر كذلك في الفقه الإسلامي فكيف تضيق عقولنا باختلاف وجهات النظر حول أمور حياتية عامة»(ص149).
4- الإيمان بالتنوع قوته الداعمة الأساس هي (الحوار). وكل مقالات الكتاب ما هي إلا إدارة حوارات مع قضايا وأعلام وأفكار.
وأعتقد أنه على ضوء كل ما سبق نتفهم بصورة أعمق الآن هذه الجدلية الدالة في عنوان الكتاب بين صيغة المفرد وصيغة الجمع، بين (عروبة اليوم) و(رؤى ثقافية)؛ أي بين الوحدة والتنوع، أو لنقل: التنوع داخل الوحدة.
قد نختلف مع بعض رؤى السبيل في جزئية هنا أو هناك، أو تأويل هنا وتأويل هناك. قد نقول مثلاً: إن الخيط المائز بين (العولمة) و(التحديث) ليس مرسوماً بتحرٍّ ودقة. وقد نقول إن محاولته استبعاد (العامل السياسي) من مشروع الوحدة يصدر عن مثالية رومانسية لا تعطي هذا العامل حقه من التشخيص الموضوعي الذي يكشف عن هيكلته العضوية في ظرفنا التاريخي العربي المعاصر. قد نقول ذلك وغيره ولكن الحقيقة المؤكدة إننا إزاء كتاب موجه للقارئ والمثقف العام كُتِب بمحاولة مخلصة حقاً لتوصيل قضايا فكرية وثقافية دقيقة -وبعضها حساس وحرج- بأبسط عرض ممكن.
الرياض