كانت زيارتي لحضرموت فاتحةَ خيرٍ لي، عرّفتني بهذا الجزء العزيز من وطننا العربيّ الكبير، وهيّأت لي فرصة التواصل مع قومٍ كرامٍ أعتزُّ بمواقفهم النّبيلة، ودفعتني إلى صلة أصهاري من الحضارم، وأتاحت لي فرصة الاطّلاع على غُرر من ملوك كندة والسّكون، ودرر من سادة حضرموت ونبهائها.
والحضرميون نسبةً إلى حضرموت بن سبأ الأصغر وإليه نُسبَتْ حضرموت، وهم شعبٌ مهاجرٌ تجري بهم تطلّعاتهم إلى عيشٍ كريم وفضلٍ عميم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وكانت رحلة الحضارم إلى مكة قديمة، ومنهم من حالف قريشاً واستقرّ في مكّة، على أنّ لكثيرٍ منهم وفادةً على النّبيّ الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، رغبةً في الإسلام وتفقُّهاً في الدِّين، وتوالت وفادتهم في عصر الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم، وساروا مع الفتوح الإسلامية وتوطّنوا في الأمصار.
ومن خيرة مَن وفد على نبيّ الهدى والدّين - صلى الله عليه وعلى آله أفضل صلاة وتسليم - من حضرموت الأميرُ عفيف بن معدي كرب بن معاوية، ينتهي نسبه إلى معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع بن كندة.
وُلد الأميرُ عفيف بمدينة شبْوة ونشأ في نعيم الملك مؤازراً لأخيه قيس بن معدي كرب ملك كندة وصاحب مرباع حضرموت، ورُوي في الاستيعاب بعد عنعناتٍ تصل إلى عفيف قوله:
"كنت امرأ تاجراً فقدمت الحجّ فأتيت العبّاس بن عبد المطّلب، فوالله إني لعنده يوماً إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر في السماء، فلمّا رأى الشّمس زالت قام يصلّي، ثم خرجتْ من الخباء الذي خرج منه الرجل امرأةٌ فقامت خلفه تصلّي، فقلت للعبّاس: مَن هذا يا أبا الفضل؟ قال: هذا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ابنُ أخي، فقلت: من هذه المرأة؟ فقال: خديجة بنت خويلد زوجتُه، ثم خرج غلامٌ حين راهق من الحلم من ذلك الخباء فقام يصلّي معه، فقلت: فما هذا الفتى؟، قال ابن أبي طالب ابنُ عمّه، قلت: فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلّي ويزعم أنه نبيٌّ ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، ثم يستطرد الحديث حتى يقول: لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ كنت ثانياً مع عليّ بن أبي طالب".
حرّم الأمير عفيف بن معدي كرب الخمر على نفسه قبل إسلامه ولهذا سُمِّي بعفيف لأنه قال:
وقالت لي هلمّ إلى التصابي
فقلت عففتُ عمّا تعلمينا
وودّعتُ القداح وقد أراني
لها في الدّهر مشغوفاً رهينا
وحرّمتُ الخمور عليّ حتى
أكونَ بقعر ملحودٍ دفينا
نستقرئ من أبياته أنه حرّم الخمر على نفسه، وودّع القمار وعفّ عن إتيان الزّنى ليس تديُّناً ولكن صيانةً لعقله وتنزُّهاً عمّا يخلُّ بمروءته وفضله، ولقد آلى على نفسه ألا ينازع رفاقه شراباً تعفُّفاً وتنزُّهاً، فقال:
فلا والله لا أُلفَى وشَرباً
أنازعهم شراباً ما حييتُ
أبى لي ذاك آباءٌ كرامٌ
وأخوالٌ بعزّهمُ رُبيتُ
شاءت الأقدار أن تنهار دولة قيس بن معدي كرب بعد موته، ولم تنجح محاولة الأشعث بن قيس وعفيف بن معدي كرب في استردادها، فهاجر عفيف إلى الحجاز وفاز بصحبة النّبيّ الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم.
وجدير بالتّنويه أن اسم الأمير عفيف هو شَرَحْبيل "بفتح أخت السين والراء، وسكون الحاء"، وسُمِّي بعفيف لأنه عفّ عن التّصابي وحرّم الخمر على نفسه وودّع القمار، ويُعتبر عفيف من مشاهير الصحابة من كندة الذين وفدوا على النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله بأزكى صلاة وتسليم، وهم عفيف بن معدي كرب، والأشعث بن قيس بن معدي كرب، وامرؤ القيس بن عابس "كتبتُ عنه مقالة سابقة"، وقيسبة بن كلثوم السّكوني الحضرميّ الذي أسرتْه بنو عقيل طمعاً في فديته، وبقي فيهم زمناً حتى مرّ أبو الطمحان الشاعر بديار عقيل فأرسل معه قيسبة رسالة إلى قومه قال فيها:
بلّغا كندة الملوك جميعا
حيث سارت بالأكرمين الجمالُ
أن رِدُوا العين بالخميس عِجالاً
واصدروا عنه والرّوايا ثقالُ
هزئتْ جارتي وقالت عجيباً
إذ رأتني في جيدي الأغلال
إن تريْني عاريَ العظام أسيراً
قد يراني تضعضعٌ واختلال
فلقد أقدم الكتيبة بالسّيف
عليّ السلاح والسربال
ولم يتأخّر أبو الطمحان فأبلغ الرسالة لأخي قيسبة الجون بن كلثوم فاستحثّ أخاه كندة والسكون فسارت جموعهم تحت راية قيس بن معدي كرب وأثخنوا في بني عقيل وخلّصوا قيسبة من أسره. وشهد قيسبة بن كلثوم فتوح مصر عام 20 من الهجرة، وكان زعيم الحضرميين حينئذ، ومن نصيبه قصر الشّمع بمصر القديمة الذي تنازل عنه ليُبنى مكانه المسجد المعروف بمسجد عمرو بن العاص.
الطائف