كان اللقاء الحواري الأخير الذي انعقد الشهر الماضي يتناول «الهوية والعولمة في الخطاب الثقافي السعودي» بما تضمنه من محاور هي:» خصوصية المجتمع السعودي»، « المواطنة في الخطاب الثقافي السعودي»، «العولمة والمجتمع السعودي في الخطاب الثقافي السعودي»، « ومستقبل الخطاب الثقافي السعودي»، وقبل الخوض في الحديث عن أهمية هذا الموضوع سأشير إلى هدف اللقاء كما ورد عن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني:
«تتبدى الخصوصية، والمواطنة، والعولمة في تفاعل المجتمع السعودي معها عبر الخطاب الثقافي ومن خلال آراء مختلفة، ومتناقضة أحيانا، ولأنها قضايا حيوية تهم المجتمع السعودي كله وليس لسجالات المثقفين فقط؛ فإن تحاور أصحاب تلك الآراء مباشرة فيما بينهم، لتتحدد عبر النقاش نقاط الاتفاق، وجوانب الاختلاف أمام الرأي العام السعودي». كان هذا هو هدف اللقاء المذكور والذي جمع سبعين مثقفًا ومثقفة من مختلف التوجهات والآراء، وتلك إيجابية تحسب لهذا المركز الذي استطاع تذويب الهوية الفردية والجمعوية داخل الهوية الوطنية، فانتفت الأنا والقبيلة أو الطائفة وبرزت الوطنية التي وحدت جميع الأطياف المتفقة والمختلفة لتتحرك الهوية الثقافية المشتركة ككيان واحد يسعى للتكامل عبر الاختلاف، وللتضامن عبر احترام الآخر، كل ذلك في جو من الحوار الحضاري الهادف الذي يمنح كل فرد حق التعبير عن الرأي وطرح الأفكار، لنتفق عليها أو نختلف حولها، لكن الحوار ليس من أهدافه فقط طرح الآراء وتركها، ثم الانتقال إلى غيرها من دون إخضاع ما نطرحه للقبول أو النقض بالحجة والدليل، حتى نصل في النهاية إلى صياغة مشتركة لنتائج كل محور يتفق عليها الأغلبية في جو من المنهجية والعلمية التي تفضي بنا إلى قابلية هذه الأفكار للتطبيق والنشر، فعند مناقشة المشاركين والمشاركات لمحور الخصوصية اختلف الكثيرون أين تكمن خصوصيتنا؟ فهناك من قال إنها خصوصية دينية، وأخرى مكانية، وثالثة فقهية! وخصوصية العادات والتقاليد، وبقيت أستمع إلى كثير من الخصوصيات داخل خصوصية واحدة، فمن الخطأ النظر إلى الخصوصية نظرة جمود تركن إلى الثبات، وتؤسس للاستبداد بالرأي وإلغاء الآخر، بل يجب النظر بإيجابية لخصوصية تدعو إلى التفاعل والتشارك مع الآخر، والتحرك أمامًا لا خلفًا، لتفضي بنا تلك النظرة إلى التغير والتطور وتؤسس للحرية المسؤولة، أي أننا نريد خصوصية تنطلق من الأصول إلى المستقبل المتجدد، لبناء ذات متطورة قوية تقف ندا للآخر وليست تابعًا سلبيًا، والسؤال الأهم الذي بقي معلقًا حتى انتهاء الجلسة: هل حقًا لنا خصوصية تختلف عن غيرنا من أشقائنا العرب؟ كثير من المفكرين من أهمهم محمد عابد الجابري أشاروا إلى أن الهوية تتحدد في مثلث ( عقيدة- وثقافة- وتاريخ) ووفقًا لهذا هل نحن فقط من ينفرد بالدين الإسلامي، أو اللغة العربية، أو التاريخ؟ هنا علينا الخروج من متاهة الخصوصية التي تؤدي إلى الانغلاق والعزلة؛ فيتقدم العالم من حولنا ونظل نراوح مكاننا، إلى الخصوصية التي تحافظ على القيم الإيجابية في كل الأبعاد الدينية، والثقافية، والاجتماعية، وتؤمن بوجود الثقافات المتعددة، وتتفاعل معها مع الحفاظ على هويتها الخاصة من الذوبان في غيرها، أي أن علينا تجاوز الموقفين: موقف الرفض للعولمة بحجة الخصوصية، وهو ما عطل كثيرًا من المشاريع التنموية لدينا، وموقف القبول المفتوح للعولمة وما تمارسه من اختراقات ثقافية وتبعية سلبية، وكلا الأمرين مناف لمصلحة الوطن، فنحن بحاجة إلى التحديث والتطوير كفاعلين ومشاركين مع وعي تام بخطورة اختراق العولمة وتوظيف إمكانياتها لصالح الخطط الوطنية الداخلية والخارجية، ويبرز هنا سؤال آخر: كيف يمكن أن نستفيد من العولمة وإيجابياتها وفي ذات الوقت نقاوم سلبياتها على هويتنا الثقافية؟ ولهذا ظننت أن المحور الثالث الذي يختص بمناقشة قضايا العولمة سيطرح هذه الرؤى ويقترح الحلول، ولكن بعض المتحاورين أهدروا كثيرًا من الوقت والجهد في تعريف العولمة وتحديد مفهومها، بل إنّ هناك من حاول إيجاد أصل لها في الإسلام! وبذلك نبتعد عن القضية الرئيسة إلى نقاشات لا تفضي إلا إلى مزيد من الاختلاف، وانتهت الجلسة أيضًا مثل الأولى والثانية والأخيرة برصد لكل الآراء التي طرحت، ثم وزّعت على المشاركين محصلة هذه الجلسات مطبوعة في أوراق، ضمت ورقة الجلسة الأولى (75 فكرة) - ولن أقول نتيجة لأن كثيرًا منها تشابه مضمونه- وضمت ورقة الثانية (100فكرة) وجاءت الثالثة في (151فكرة) والرابعة في (95 فكرة) وعندما راجعتها ظننت أنها نتائج كل جلسة وأهم مقترحاتها، لكني وجدتها تكرارًا لما طرحه المشاركون من دون محاولة للربط بين الأ فكار والرؤى والمقارنة بينها؛ للوصول إلى صياغة نهائية تعرض نتيجة الحوار حول هذه القضية أو تلك، بمعنى أن يتم جمع كل الأفكار المتفقة على رأي واحد وصياغتها في نقطة واضحة كنتيجة نهائية تمثل المحصلة النهائية للتحاور بين المشاركين، وكذلك لطرح الحلول والمقترحات التي تداولها المتحاورون في الجلسة، والاستفادة منها في صياغة تقرير ختامي يوضح النتائج التي وصل إليها الحوار لتقييمه والتأكد من خدمته للهدف الرئيس الذي انعقد اللقاء من أجله، وهنا سأعود إلى هدف اللقاء الذي ورد في بداية حديثي إذ كان من أولوياته « تحديد نقاط الاتفاق، وجوانب الاختلاف أمام الرأي العام السعودي» وهو ما لم أجده في أوراق الجلسات التي أدرجت كل ما قاربه المتحاورون من دون إظهار لنقاط الاتفاق، وجوانب الاختلاف في كل محور، بل إنّ بعض المتابعين لجلسات اللقاء عبر البث الإعلامي المباشر أبدوا عدم قدرتهم على الوصول إلى وجهة نظر نهائية تغلق كل جلسة، أو حتى الخروج بنتائج مباشرة تعالج القضايا المطروحة، أو تسهم في وضع الحلول لها، لذا فإنّ الاقتصار على التنظير والمناقشة على المنابر فقط ثم لا تجد بعد ذلك تطبيقًا له في الميدان هو ضياع للوقت والجهد بل إهدار للطاقة الفكرية والاقتصادية.
كلنا يقدر دور الحوار وما يعود به علينا من نتائج إيجابية، متى كان حوارًا هادفًا مؤثرًا، فاعلاً وبانياً، يجب أن يمتد دوره بعد انقضاء الجلسات الحوارية إلى فعل التأثير والإصلاح، وأعتقد أنّ هذا هو الهدف الرئيس من طرح قضايا ثقافية، وتعليمية، وصحية، وغيرها، هذا كله جميل ويدل على وعي بأهمية الحوار، الذي يعد الطريق الأمثل لاكتشاف مواطن الخلل ثم اقتراح العلاج، لكن أنّ ينتهي الأمر عند انتهاء الملتقى، فلا تستثمر المداخلات والمقترحات الواردة بطريقة تصل إلى كل الأطياف بما فيهم الناس العاديين، أو لا توليها النخب السياسية والاقتصادية اهتمامًا، فأين يذهب هذا الجهد بعد اللقاء؟ هل نكتفي بالتنظير وحفظ الآراء المطروحة في أرشيف المركز وضمن وثائقه فقط؟ أم أنّ هناك لجاناً أخرى تدرس نتائج اللقاء وتنظمها ضمن رؤى رئيسة قابلة للتطبيق لتقدمها لأصحاب القرار فيتم التفاعل معها والأخذ بما ورد فيها من حلول لمعالجة ظاهرة معينة، أو الارتقاء بالعمل في جهة بعينها بناء على توصيات اللقاء، حتى لا تكون لقاءات الحوار الوطني - كما يراها بعض المتابعين - ما هي إلا نوع من الترف الفكري أو السياحة الداخلية، فلا جدوى من الحوار إلا إذا ظهرت نتائجه على السطح، وتفاعل معه المسؤولون كفعل إنساني مؤثر في حركة المؤسسات المختلفة، وعنصر مساعد على التطوير، وقوة دفع لازدهار الوطن ورقيّه، وتفعيل لبرنامج الإصلاح الذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين وأنشأ مركز الحوار الوطني لتحقيقه، بهذا سيصل الحوار إلى أهدافه، وأهدافنا جميعا من أجل الوطن..
الرياض