قبل عقدين من الزمان، أو أقل قليلاً، عرفت الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع، ومن يومها كلما ازددت منه قربًا ازددت له حبًا، وتأكد هذا الحب بمعرفتي لجوانب متعددة من نشاطه العلمي والثقافي والجامعي وإسهاماته المتعددة الرفيعة السخية في هذه الجوانب كلها، وهي - بأجمعها - تصب في خدمة اللغة العربية، اللغة الوحيدة على امتداد التاريخ التي نزل فيها كتاب سماوي، وتصدق على علاقتنا هذه مقولة شيوخنا القدامى: (العلم رحم بين أهله) فأنا منه الآن وهو مني.
منذ سنوات عدة، صرفت جانبًا من نشاطي العلمي في خدمة الأدب المقارن، وهو أحدث الأنواع البحثية في مجال الأدب والتأريخ له، ولا تقف غاياته عند المعرفة العلمية المجردة الخالصة فحسب، وإنما تتجاوزها إلى غايات علمية، تهدف إلى تقوية الروابط بين الشعوب عن طريق الثقافة، وتأكيد صلات الود إن وجدت، والتخفيف من غلواء الكراهية - أو محوها - إن كانت، بمحاربة نظريات الأعلى والأدنى، والغالب والمغلوب بين الشعوب فكلها تعطي، وكلها تأخذ، وتخضع في تحركها لعوامل اجتماعية وسياسية أيان توفرت، لا فرق بين المفيد والمستفيد.
لحظت أن هذا ليس حالنا، حين يتحدث نقادنا، ومؤرخو الأدب المقارن، فهم عادة يطرحون موضوعات وقضايا تدور كلها حول تأثير الغرب في الشرق بعامة، أو في ثقافتنا العربية بخاصة، فنحن عالة عليهم في الرواية والقصة والمسرح، وتطور الشعر، واتجاهات النقد الحديثة، وإذن فهم الأرقى والأعلى لأننا نأخذ منهم ولا نعطيهم، والتأثير يجري طبقًا لقوانين التقليد، وكان مبدعها مؤرخنا العظيم عبد الرحمن بن خلدون، من الأعلى للأدنى، ومن الأقوى للأضعف، ومن الأكبر للأصغر.
وكان هذا حقًا في جانب منه، ولم يكن الحقيقة كلها، وبعض الحقيقة، دون ذكرها كاملاً، يجعلها شيئًا مزيفًا، أسوأ من الباطل الصراح، لأنها تخدع وتموّه وتضل، ويتوه في ثناياها وسراديبها من ليس محصنًا بالمعرفة العميقة، وبالانتماء القوي يحميانه من الوقوع في حبائل الغاوين.
لقد أدركت بعد تأمل أن الفهم السطحي لقواعد المقارنة، والتعلق بالغرب وخططه كان وراء الاتجاه إلى الغرب وحده، دون غيره، فقواعد المقارنة ترى أنها لا تكون إلا بين أدبين، أو أديبين، تختلف لغتهما القومية التي كتبا فيها، أما إذا كانا في لغة قومية واحدة فهذا من اختصاص الموازنة، وهي علم عربي عريق تعرفه العربية منذ ألف الآمدي أبو القاسم بن بشر المتوفى عام 370هـ، عن (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري)، والشيء نفسه يصدق على الدول الغربية التي تستخدم لغة واحدة، كالفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية، مهما تعدّدت قومياتها السياسية، وتباعدت أمكنتها الجغرافية). ولكن، في رحلة لي إلى أوروبا منذ سنوات خلت بكتاب عن الأدباء الكاثوليك الأوربيين: دراسة مقارنة، فألهمني في الحال - وأغراني إذا شئت - هذا السؤال: ولماذا لا تكون لنا نحن المحاولة نفسها، وبين الأمم الإسلامية، المختلفة لغة - كما تتطلب قواعد المقارنة ومناهجها - الموزعة جغرافيًا على قارات الدنيا، مثل هذه المحاولة، ويجمع بيننا الكثير من القضايا الثقافية والأدبية المشتركة، وفيها يكون الموضوع واحدًا، ولكن التناول مختلف؛ لأنه في كل واحد منها يعكس مزاج كل أمة وطبيعتها وشيئًا من مزاج أهلها وأخلاقهم وعاداتهم وتاريخهم؟ وتفعيلاً لهذه الفكرة جاء كتابي (مقدمة في الأدب الإسلامي المقارن) وصدرت طبعته الأولى في القاهرة عام 1995م.
لم أكن أتوقع أن يكون لعملي هذا أي صدى، لا في مصر ولا في خارجها؛ لأن الطريق لم يكن معبدًا، ولا واضح المعالم، وكانت محاولات أستاذنا الجليل حسين مجيب المصري - رحمه الله - ورحل عن دنيانا مغبونًا، لا تلتزم مناهج المقارنة الأساسية، وإن سدَّت فراغًا هائلاً في بابها، إذ كان - رحمه الله - يطبعها على نفقته، فجاءت متواضعة الشكل والمظهر والورق، وإن حوت علمًا عزيزًا، ولكن حدثت المفاجأة! فقد تلقيت بعد صدور كتابي بأسابيع قليلة رسالة من الدكتور محمد بن عبد الرحمن الربيِّع وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي، يحيي فيها جهدي المتواضع، ويحدثني عن الجهود التي تقوم بها جامعة الإمام محمد بن سعود في هذا المجال، وزاد فوافاني ببعض ما نشرته في مجال التعريف بآداب البلاد الإسلامية المختلفة: التركي والإندونيسي، والفارسي والأردي والأفغاني، والسواحلي والأزبكي، إلى جانب ترجمة شيء من التراث العربي إلى لغات هذه الشعوب الإسلامية، تأليف د. محمد بن عبد الرحمن الربيِّع، وهو من منشورات جامعة عين شمس، القاهرة 2006م. لقد وقفت مبهورًا أمام هذا الجهد العلمي الرائع، غير المسبوق، منهجاً وتخطيطًا وتنوَّعًا، وأحسست أن جامعة الإمام محمد بن سعود تنهض برسالة العالم الإسلامي والعربي في أشد الحاجة إليها، وسوف تكون ثمارها في قادم الأيام طيبة ومفيدة لخير الإسلام والمسلمين.
من هذه اللحظة عرفت الدكتور الربيِّع عن طريق ما تلقيت من مؤلفات وافتني بها الجامعة، وما حصلت عليها عن طريقه، أو من مكتبات القاهرة؛ عالمًا موسوعيًّا، متعدد الجوانب، واسع الخطو عريضه في خدمة اللغة العربية، وأحببت فيه حرصه الشديد على نشرها خارج حدود العالم العربي الذي يتكلمها، مجاهدًا لا يكل في سبيل تحقيق هذه الطموحات القومية الرفيعة، وأعانه على تحقيقها سياسة حكيمة ترى في نشر العربية وتيسيرها للراغبين في تعلمها ضرورة تقتضيها مصلحة الوطن والدين في المدى البعيد، وكان بعد النظرة هذا وراء إنشاء سلسلة من المعاهد لتعليم اللغة العربية، في كثير من الأقطار الإسلامية التي لا يتكلم أبناؤها اللغة العربية أصلا، أو التي كان أبناؤها يتكلمون العربية ولكنها تواجه فيها حربًا شرسة، وحصارًا شديداً من القوى الاستعمارية المختلفة، وفي بعض البلاد الأخرى غير الإسلامية، ولكنها في حاجة إلى اللغة العربية لغايات اقتصادية أو سياسية. إن جهد جامعة الإمام محمد بن سعود في هذا المجال تجاوز الأمل والتنظير والتخطيط إلى التنفيذ والإثمار، جدير بالثناء والتقدير، وهو جهد وراءه كوكبة من العلماء المخلصين الواعين، في مقدمتهم الدكتور محمد الربيِّع.
وماذا عن الربيِّع الإنسان؟
كانت معرفتي به إنساناً عن قرب، خلال تلاقينا في المؤتمرات الثقافية التي يُدعى إليها في القاهرة، وعلى نحو أقوى خلال اشتراكنا معًا عضوين مناقشين لرسائل الماجستير والدكتوراه التي يتقدم بها طلاب الدراسات العليا في الجامعات المصرية، فعرفت فيه العالم الموسوعي، المتمكن من العربية في شتى فروعها، المنهجي في عرضه، الهادئ الوقور في حواره الموضوعي في أحكامه، العف اللسان حين يعرض لآراء المخالفين. وكل هذه الصفات الحميدة، والقليلة واقعًا قرّبتني إليه، وجعلته حبيبًا إلى قلبي، وأحسب أنني منه كذلك، لقد ربط العلم بيننا بوثاق متين لا ينفصم فما كان لله دام واتصل.
*أستاذ الأدب في دار العلوم - جامعة القاهرة - عضو مجمع اللغة العربية