من الآفات العقلية الخطيرة ميل الكثيرين إلى (تصنيف) الناس والبلدان والأشياء تصنيفات حادة، وتعميم هذا التصنيف بحيث يعد (نمطاً) واحداً لا يند عنه (فرد) منها إلا على سبيل الشذوذ الذي ينحاز عن القاعدة المطردة، وذلك كأن تعد مدينة ما بأنها موطن البخل، وأن يصنف المسلمون على أنهم إرهابيون، وأن ينظر إلى الشخص (المتدين) على أنه أقرب إلى عصور الظلام.
ولا أجد حرجاً من أن أسلك في هذا الوادي ما تواتر أمامي - على مدى عقود - بين من يسمون (بالمثقفين) من أن الجامعات السعودية رمز مجسم على (الانغلاق) الفكري. وتلك (فرية) من نتاج الآفة العقلية في تعميم التصنيف، يستريح إليها نفر من هؤلاء وينتشون فرحاً ومرحاً أن توصم أرض الحرمين الشريفين بالانغلاق الجمود.
نقول: إنها (فرية) من (الفرى) التي تمثل أعراض (مرض) عقلي عضال؛ لأن (الشواهد) ماثلة تدحض هذه القرية وتكشف عما وراءها، ولقد نوجز القول فيما يلي:
1- منذ نشأت الجامعات السعودية وهي تستقبل أساتذة وخبراء وفنيين للعمل بها من كل بقاع الأرض، وليس ذلك إلا برهاناً قوياً على (الانفتاح) الفكري، وإلا لاقتصرت على (نمط) معين من الناس، وعلى (اتجاه) محدد من التفكير.
2- انتشر بين الناس أن ثمة جامعات سعودية مدنية تتسم بالانفتاح والعصرية، مثل جامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وأن جامعات أخرى تقع في الجمود والانغلاق، وبخاصة ما يعرف بالجامعات الإسلامية مثل جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض على وجه الخصوص.
نعم، لجامعات المملكة مظلة واحدة من (القيم) تسير على هديها، وهي قيم (إسلامية) تسعى إلى التقدم والتطور والبناء، وهي التي أصلت أن ذلك كله لا يكون إلا بالانفتاح، والحوار الفاعل، والأخذ والعطاء: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
3 - يشهد كاتب هذا المقال، وقد خبر الحياة الجامعية السعودية، وله صلة قوية بأبناء هذه الجامعات - على تنوعها - أساتذة وطلاباً، أنه لم يجد إلا رغبة قوية في المعرفة، وسعياً حثيثاً إلى الاستماع إلى من تشهد تجربته باتساع الأفق، وإلى استنصاح من يأنسون فيه إخلاص النصح لا زيغ فيه ولا رياء.
ولقد عملت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أستاذاً معاراً وزائراً سنوات ذوات عدد فلم أجد حجراً على تفكير بانٍ متجدد، بل لا أكاد أحصي المناسبات التي طولبت فيها أن أقدم ما أتيح لي معرفته من جديد الآخرين في علوم العربية، وهي من أوثق العلوم صلة بالإسلام. وهذه الجامعة - على وجه الخصوص - كان لابد أن يُفضي دستورها إلى (الانفتاح)؛ فهي تستقبل دارسين من شتى بقاع العالم الإسلامي على اختلاف ثقافاتهم واتجاهاتهم، وتستقبل وفوداً من جامعات العالم، ولها معاهد خارجية في إفريقيا وأسيا وأوروبا وأمريكا؛ فهل يُقْبل عقلاً أن هذه جامعة (منغلقة) التفكير وهي تتعامل مع كل هذه المناخات المتنوعة.
وقد أنشأت الجامعات الإسلامية كليات للغات والترجمة، وأدخلت الوسائل العصرية في تقنيات التعليم، وقد أزعم - خلاصة القول - إن الجامعات السعودية أقرب إلى (الانفتاح) الفكري من كثير من الجامعات المعروفة.
والجامعات لا تعرف إلا بأساتذتها، والأستاذ الحقيقي يعرف بجامعته، وحين تُذكر أمامك جامعة ما فإن عدداً من أساتذتها المرموقين يبرز إلى ذهنك فوراً، وحين يذكر أستاذ معروف فإن اسم جامعته يقترن باسمه اقتراناً مباشراً.
ولقد ذكرت أني على صلة قوية بعدد كبير من الأساتذة السعوديين، نعم فيهم واحد أو اثنان أو قلة قليلة تتنفس الانغلاق وتستمتع به شأن كل مجتمع بشري في العالم، غير أن الغالبية الغالبة هم من أهل التفتح الفكري والاستعداد القوي نحو التجدد والتقدم.
يأتي في الصف الأول من هؤلاء أخونا العزيز محمد بن عبدالرحمن الربيِّع، بل قد أظن قوياً أنه واحد ممن يمثلون الانفتاح والتجدد في الجامعات السعودية.
وقد تضافرت عوامل جوهرية كثيرة في تحديد اتجاه هذه الشخصية المتميزة:
فهو أولاً متخصص في دراسة الأدب، وهي دراسة لا تتوقف - بطبيعتها - عند نموذج واحد؛ لأن الحياة - وهي منبع الأدب - واسعة متنوعة متغيرة، ودارس الأدب يرتاد آفاقاً متغايرة من الجاهلية إلى الإسلامية إلى الأموية إلى العباسية والأندلسية إلى العصر الحديث، وقد ألف روافد من الشرق والغرب قديماً وحديثاً، ورأى جدداً وجديداً في الأشكال وفي المحتوى، فأنى لمثل هذا المتخصص أن يدلف إليه الانغلاق؟
وهو ثانياً لم يتوقف أخذه على دراسته النظامية في الأزهر الشريف، بل أخذ عن كثيرين؛ مصريين وشوام ومغاربة وسودانيين، وذو علاقة قوية بالأدب الإسلامي، مستمعاً في الوقت نفسه إلى أدباء الحداثة والتجديد، صديق لعدد غير قليل من أدباء الوقت ومفكريه كالشاعر المعروف الأستاذ محمد التهامي، وأدباء الغرب الإسلامي والشام وهو واحد من منسوبي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وجمعية لسان العرب، وجمعية التعريب، ومحبي العربية وغيرها.
وهو ثالثاً لم يقتصر على الدرس الأدبي بل اتصل بعدد من علوم العصر كالتاريخ وعلم الاجتماع، على أن إسهامه الأهم - بعد الأدب - كان في ميدان تعليم العربية للناطقين بغيرها، وهو ميدان علمي يكاد يتجدد بطبيعته كل يوم، وله سهم معروف في وضع برامج تعليمها في معهد جامعة الإمام بالرياض، وفي تصميم المقررات بمعاهد جيبوتي وجاكرتا وطوكيو، واشترك مع بعض المتخصصين في وضع خطط لتعليم العربية لأغراض خاصة، وله في ذلك كله آراء وتأليف.
و(الربيِّع) من قبل ذلك ومن بعده يستند إلى (طبيعته) الشخصية التي (فطر) عليها؛ فهو شخصية (منبسطة) كما يقول علماء النفس، يمتلك قدرة اتصالية هائلة، سريع الإقبال سريع القبول، وتهيمن عليه رغبة قوية في السعي إلى الآخرين، وحب الرحلة، ونهم المعرفة.
وكان حصاد ذلك كله أن (الربيِّع) يمثل الانفتاح الفكري السائد في الجامعات السعودية، وأنه في ذلك يصدر عن مبدأين: الاستناد إلى الأصول، والتطلع إلى العالم.
* عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة - الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية
انتقل إلى رحمة الله في 13/5/1431هـ