في البدء تحية تقدير وإجلال لجريدة الجزيرة، ولمجلتها الثقافية بقيادة ربانها الماهر الزميل الوفي الدكتور إبراهيم التركي، ولأخينا العزيز الأستاذ علي بن سعد القحطاني على فكرة هذا الملف عن أستاذنا الغالي الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ووكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً.
ولعلي في هذه المناسبة أسترجع ذكرياتي معه، وأظنها قاربت العشرين عاماً، وربما كانت العلاقة في بدايتها إذاعية، ثم صحفية عندما كنت أشرف على الصفحات الثقافية بجريدة المسائية، ثم علمية حينما كنت أخطط لرسالة الماجستير عن السيرة الذاتية في الأدب السعودي وأستشيره بوصفه أستاذاً متخصصاً في الأدب والنقد.
وعندما كلف بوكالة الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، ثم رئيساً لمؤتمر المملكة في مئة عام أثناء الذكرى المئوية انشغل نوعاً ما عن محبيه فلم نعد نجتمع به إلا في لقاءات إعلامية لا تتيح فرصة للجلوس معه مدة طويلة، ومع ذلك فلم تكن تلك المدة خالية من لقاءات ودية خارج المنزل يجمعنا فيها أبو هشام على موائده العامرة. وربما أهم مرحلة توطدت فيها العلاقة مع أستاذي وصديقي الغالي الدكتور محمد الربيِّع عندما كُلف برئاسة مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض في المدة من (1422-1426هـ) إذ أصبحت ألتقي به مرتين على الأقل أسبوعياً في النادي أو المنزل، وكلفني أثناءها بلجنة لتطوير مكتبة النادي، وأشركني في اللجنة التحضيرية لملتقى النقد الأدبي، وأفضل عليّ بطباعة رسالتي في الدكتوراه عن حسين سرحان في ثلاثة مجلدات، وشرفني بإلقاء محاضرة عن الفضاء الاجتماعي في السير الذاتية السعودية.
والدكتور محمد الربيِّع إنسان يعشق العمل لدرجة تصعب على الوصف، ويملك علاقات واسعة في داخل المملكة وخارجها، ولا يقتصر في صداقاته على جيله، بل تمتد علاقاته وصداقاته إلى من هم أكبر منه ومن هم أصغر منه؛ ولذلك لم نشعر أنه قدم استقالته من النادي الأدبي، ولم نشعر بتقاعده الرسمي من الجامعة فقد ظلّ متواصلاً مع جميع الجهات التي عمل بها عضواً في اللجان، ومشاركاً بالرأي، وفاعلاً وحاضراً في التخطيط لكل عمل علمي أو ثقافي: في جامعة الإمام، وفي النادي الأدبي من خلال ملتقى النقد (عضوا ورئيساً للجنة)، وفي مكتبة الملك فهد الوطنية، وفي مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وفي وزارة الثقافة والإعلام، وفي دارة الملك عبدالعزيز.
والحديث عن عمل الدكتور محمد الربيّع في دارة الملك عبدالعزيز وحده يستحق مقالة مستقلة، فهو نموذج للمستشار الفاعل المخلص، وأتحدث هنا عن تجربة معه تقترب من عشر سنوات إذ أحسن في الظن فرشحني قبل أن آخذ الدكتوراه بأشهر عام 1423هـ عضواً في موسوعة عن الأدب العربي الحديث إلى جانب أسماء كبيرة: (السماري، والحازمي، والبازعي، والمعيقل) للتخطيط لإعداد مداخل عن بعض من أدباء المملكة المشاهير لموسوعة يشرف عليها الدكتور حمدي السكّوت عن الأدباء العرب، وأنجزت اللجنة عملها بتمويل ومتابعة من الدارة، وصدرت عام 2007م في القاهرة بعنوان (قاموس الأدب العربي الحديث). ولأن السكّوت لم يستطع نشر جميع المداخل التي أشرفت عليها اللجنة بمعونة من عدد من الباحثين فقد تقدم الدكتور الربيّع باقتراح إلى مجلس إدارة الدارة للخروج بعمل متكامل عن الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، وصدرت موافقة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض رئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز على قيام الدارة بهذا العمل الموسوعي الكبير الذي أخذ اسم (قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية)، وكنت محظوظاً أن أكون ضمن اللجنة العلمية المشرفة على القاموس التي بدأت أعمالها عام 1429هـ، وضمن لجنة أخرى في الدارة أيضاً تعمل على موسوعة عن الملك عبدالعزيز في الشعر، وسنكون معاً بحول الله في عمل وطني ثالث قادم تنهض به الدارة لم يحن الوقت للحديث عنه!.
ولقد أسعفني الحظ أيضاً بأن أكون إلى جانب أستاذي الدكتور محمد الربيِّع عام 1430هـ في لجان مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث الذي نهضت به وكالة وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية.
وهذه الأعمال مجتمعة (ملتقى النقد، وموسوعتا الدارة، ومؤتمر الأدباء، وغيرها) جعلتني ملازماً للدكتور محمد الربيّع، وإذا حضرت وحدي لمناسبة أدبية سألوني: أين أبو هشام؟، وأظنهم يسألونه أيضاً إذا حضر مناسبة وليس معه تلميذه المحب له كاتب هذه السطور!.
ولم يقتصر اللقاء به والتعاون معه والاستفادة منه على مدينة الرياض، حيث نسكن، بل ترافقنا في أكثر من سفر إلى جدة لحضور ملتقى النص، وإلى تبوك لحضور الملتقى الثقافي، وإلى الأحساء لحضور ملتقى جواثا، وإلى القصيم لحضور مناسبات أدبية هناك، وإلى جازان وأبها والأحساء للمشاركة في ندوات تعريفية بقاموس الأدب والأدباء، وإلى الدمام لمناقشة رسالتين هناك، وإلى القاهرة والإسكندرية، وإلى أماكن عديدة.
وغني عن القول فإن ملازمة عالم بحجم الدكتور محمد الربيّع، وإداري محنّك بقامته، وإنسان محبوب يملك رصيداً كبيراً من العلاقات الوثيقة بشرائح عديدة من وجوه المجتمع أفادتني أيما إفادة، ومنحتني تجارب مهمة تفوق سني، وأعطتني دروساً في الحياة وفي العمل ما كان لي أن أحصل عليها لو لم أتعرف عليه.. وخلال علاقتي الطويلة به كنت معجباً بأفكاره النيّرة وآرائه الصائبة وبقدراته في إدارة الاجتماعات وتسيير اللجان، وتوزيع الأعمال، مع التزام شديد بالوقت بدءاً ونهاية، وحرصاً على إضفاء روح المرح والفكاهة على الاجتماع بين آونة وأخرى ترويحاً للمجتمعين، وتخفيفاً للجد الذي يطبع هذه اللقاءات.
وثمة خصال عديدة يتمتع به أستاذنا العزيز، ومنها الوفاء لأساتذته وزملائه، وحبه لطلابه وتشجيعه لهم.
ومن ذلك حرصه عندما نكون قريبين من رابطة الأدب الإسلامي العالمية أن نسلم على أستاذنا الدكتور عبدالقدوس أبو صالح، وتكرر ذلك أكثر من مرة، وعلى الدكتور عبدالعزيز السبيِّل في وكالة وزارة الثقافة والإعلام للشئون الثقافية، وخارج الرياض حرص على السلام على الشيخ أحمد المبارك رحمه الله في الأحساء، وعلى الشاعر علي بن أحمد النعمي رحمه الله في جازان، وفي القاهرة على الدكتور عبدالحميد إبراهيم، وعلى الشاعر محمد التهامي، وفي الإسكندرية على الدكتور عبده الراجحي رحمه الله الذي كانت زيارتنا له قبل وفاته بشهر تقريباً.
ومع أن أستاذنا العزيز قدّم للمكتبة العربية نحواً من ثلاثين كتاباً إلا أنها لم تحظ بتوزيع جيد يوازي ما بذل فيها من جهد؛ ولذلك كنت وما أزال أقترح عليه أن يقدمها لدار نشر تملك إمكانات قوية في الإخراج والتوزيع لتتولى إصدار الأعمال الكاملة له.
ومن كتبه التي أرتاح لمطالعتها بين فترة وأخرى كتابه الشهير (أدب المهجر الشرقي)، ومقالاته المجموعة في كتابه (خمائل وأزهار) بحلته الرائعة التي لا يفتأ الصديق سعد بن عايض العتيبي يمتدح شكله ومضمونه.
ومما أقترحه على أبي هشام أن يتخذ له جلسة أسبوعية بعد المغرب أو العشاء في منزله يجمع فيها محبيه للتحاور والنقاش حول الشأن الثقافي العام، وأظن أنها ستكون ناجحة؛ لأنه يستقبل كل أسبوع في منزله عدداً كبيراً منهم في أوقات متفرقة لمشاورته والحديث معه والاستفادة من تجاربه الإدارية والثقافية بشكل عام، وربما كان الأفضل ترتيباً لوقته أن يكون اللقاء محدداً بيوم معيّن. وبحكم الاهتمام بجنس السيرة الذاتية فليته يدون ذكرياته الثرية وخبراته العميقة في الشأن الثقافي في كتاب يخلّد تجاربه الحقيقة بالتدوين والبقاء نبراساً تستنير به الأجيال.
ومن منطلق (الأرواح جنود مجنّدة...)، فإن مما وطّد الصداقة مع أبي هشام كل هذه المدة مع رسوخها يوماً بعد يوم التقاؤنا في صفات مشتركة تأكدت لديّ بسبب طول ملازمتي له، من أهمها: الرغبة الأكيدة في خدمة الأدب في المملكة العربية السعودية، والالتزام الشديد بالمواعيد واحترام الوقت، وحب العمل والانغماس فيه.
محمد الربيِّع: معلمي، وصديقي، ووالدي، ودعائي الصادق له بالصحة والعافية والعطاء الثقافي المتواصل لخدمة هذا الوطن ومواطنيه.
* أستاذ الأدب المشارك بكلية اللغة العربية بالرياض
aaah1426@gmail.com