الشعر
اهتمامنا بالشعر دون غيره من الفنون التي طرقها عزيز ضياء؛ أي الرسم والموسيقى يعود إلى فكرة عنده في أكثر من موضع؛ ومؤدّاها تفوق اللغة على كلّ وسائل التعبير الأخرى؛ وقدرتها على الوصول إلى ما لا يمكن أن تصل إليه؛ والتعبير عن مكنون المعاني ومنفلت العوالم، وهي متى وجدت فناناً له قدرة على إثارة ممكنها وتحريك طاقة الإيحاء فيها، بلغت بفنه مراتب سامقة وجنحت في آفاق بعيدة، لأنها تصوير ورسم وكل تصوير أداته تختزن تجربة الإنسان وتاريخه الطويل:
إن الظلال المحسوسة ليس من يجهلها، ولذا فهي التي يستطيع أن يتلاعب بها الفنان فيما تبدعه ريشته من الأعمال.. ولكن هي التي يعجز عن إظهارها فنّ الرّسام..
ولعلّ ذلك يعود إلى سببين متعارضين: أولهما اقتناعه بأن الذائقة الجمالية تتطور وتتغير، بحسب ما يجدّ الإنسان من أحداث وما يطرأ عليها من تقلبات. فلقد لمس ملامسة المعايش ما جدّ بعد الحرب الكونية الثانية من تغيّر؛ شمل مناحي الحياة كلها وشمل الفنون التي جعلها موضوع تأمله، حتى تزعزعت الأنماط كلها بما في ذلك ما كنا نظنّ أنه مستقر بصفة نهائية، وأصبح الفنّ في مختلف تجلياته، رافضاً للقيود التي «ظلت تهيمن على الأعمال الفنية طيلة قرون.» (ص 322).. ولعل من أسباب هذا التغيّر تسارع نسق الحياة والإحساس؛ بأن الزمن لم يعد زمن الدقة والمهارة والتفاصيل الصغيرة تلك؛ التي كانت تحتفي بها أصول الفن التقليدية. يقول: «في الفن التشكيلي، لم يعد لدى الفنان متسع من الوقت لعمل يعتمد على إبداع الدقة والمهارة والتفاصيل الصغيرة.. وفي الفنون التعبيرية لم يعد لدى الشاعر أو الموسيقار، متسع من الوقت لاتباع الأصول التقليدية، فكان من ذلك ما نقرأ وما نسمع من عطاء، قد ينفر منه أبناء الجيل الماضي أو الحاضر؛ ولكنه المحبّب والمألوف لدى أولئك الذين وثبوا إلى الحياة في القرن الواحد والعشرين» (ص 328).
فلكل جيل فنّه، ولكل نسق حياة ذوقه، ولا أدلّ على ذلك من أنّ روائع الفن القديم التي اعتبرتها أجيال متلاحقة النموذج الأسمى في ميدانها، لم يعد ينظر إليها اليوم كما كان ينظر إليها في الزمن السالف..
الرّجل يبقى مقتنعاً بأن التبدّل والتغيّر قانون لا يمكن صدّه؛ وأنه لا يقع بإرادة الإنسان، وإنما تفرضه الأحداث الجسام التي تعصف بحياة الناس؛ ويمتد أثرها إلى أبعد الأشياء غوراً، فتتخللها ونشكك في جدواها. وهو كالكثير من أبناء جيله الذين عاشوا ويلات الحرب العالمية الثانية؛ أدرك تمام الإدراك أن الأشياء بعدها لا يمكن أن تبقى كما كانت عليه قبلها، وأنها لم تصب من الإنسان جانبه المادي فحسب، وإنما أثرت في بنيته العقلية وبنيته النفسية وجعلته يصبو إلى أن يعيش على نمط مغاير، وأن يرفض كلّ ما يكون قد تسبّب في هذه الكارثة؛ التي جعلته يشك في كل شيء ويفقد الرواسم التي كان يسير على هديها:
« الإحساس بحركة الزمن في هذا العصر وعلى الأخص بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا بد أن يبلغ مداه العميق في كل عمل وفي كل إنتاج.. وكما في أي نشاط صناعي أو عملي، فإن مختلف وجوه النشاط الفني لا بد أن تساير الإحساس بحركة الزمن.. ولعل هذا من أكبر العوامل التي دفعت إلى ساحة الحضارة في هذا العصر اتجاهات الفن الحديث، ليس فقط الفنون التشكيلية وحدها، وإنما في مختلف الفنون الأخرى ومنها الشعر والموسيقى» (ص 328)
وثانيهما ضغط الموروث الشعري عليه؛ وثنيه عن بعض المواقف التي يصرح بها عندما يتناول بالحديث فني الرسم والموسيقى، أو يتناول موضوعهما الأساس وهو الجمال.. فلئن كان كثير من آرائه فيه منسجمة مع تفكيره العام الذي أشرنا إلى بعضه في ما سبق من حديثنا؛ فإن مواقف أخرى تبعث على الحيرة والسّؤال.. وإن كانت هذه المواقف محدودة قليلة بالقياس إلى المواقف الأولى. وهو بانتمائه إلى تراث يحتل منه الشعر مكانة خاصة؛ يسارع إلى تقديمه على كل أساليب الكلام؛ ويدعو إلى عدم إفساده بإخضاعه إلى ضروب التحليل والتفلسف.. ويرى أنه متى توفرت فيه خصيصة الصدق الفني، استحال نقله إلى لغة أخرى لأنّ لغته التي صيغ فيها أولاً هي القادرة وحدها على حمل معانيه.. (ص 295). وربط وظيفة الشعر بأحداث الأثر في المستمع إليه أو القارئ له، مسألة قديمة تحتل من مؤلفات النقاد العرب الأولين صدارة المسائل النقدية.. فقد اعتبروا مسألة «وقع الشعر» أبرز المعايير في الحكم بفضل نص على نص وتفوق شاعر على شاعر.. والمؤلفات في الشعر والشعراء وفي أخبار الشعراء، فيها ما به نتأكد من أن تقويم الشعر وتقديره يتم بحسب فعله في القارئ، وقدرته على خلق حال شعرية فيه تشبه فعل الرقي والسحر، ولا يصل الشاعر بشعره إلى هذه الدرجة من التأثير؛ إلا إذا أحكم تخيّر الألفاظ وانتقائها عل أساس ما لأجراسه من وقع في الأذن وانسياب في النفس؛ مع ضرورة تجنّب اللفظ النابي الوحشي والمهجور، لأن عماد الشعر أولاً وآخراً موسيقاه وما فيه من إيقاع قادر على تحريك المستمعين أو القراء، بما في تلك الموسيقى من الانسجام والائتلاف والاقتران بين مختلف مكوناتها. (395 - 396)
وكأن هذا الرأي القائم على الفصل بين الألفاظ والمعاني لا يرضيه تمام الإرضاء، ولا يستجيب لتصوره للعمل الفني والكيفية التي تتمّ حسبها ولادته التفت إلى تجارب الشعراء العرب المعاصرين؛ وما عبروا عنهم من مواقف وآراء في الإبداع فوجد ضالته عند إلياس أبي شبكة؛ الذي يذهب إلى استحالة الفصل في العملية الشعرية بين مكونيها؛ باعتبارهما ينتميان معا إلى الوجدان الذي تنصهر في بوتقته القصيدة:» يقول إلياس أبي شبك: الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة... وعندي أن الشعر يهبط مرتدياً ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ.. وبقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق والموسيقى في روحه ووجدانه، يكون البيان راقياً في شعره» (ص 301)..
إلا أنه جرياً على ما كان قرره من حتمية تحول الفنون وتبدلها عبّر في مواطن كثيرة من هذه الوقفات، عن مواقف من الشعر الحديث، جريئة تدل على تفتح فكري واضح وإيمان عميق بأن سلطة الفن أكبر من سلطة القواعد والأصول والتقاليد.
وقد بدأ التعبير عن هذه الآراء في عرض لآراء لا يتبناها صراحة حتى تبدو للناس من باب الخطاب المحايد؛ الذي لا يزج عارضه بذاته فيه ولكنك متى تعمقت الأمر، وجدت وراء كيفية العرض ما نميل معه إلى أنه ليس عرضاً، وإنما هو تعبير عن موقف.. يقول: «من النقد المعاصر للشعر العربي رأى لا ندري كيف يقابله شعراء المدرسة التقليدية القديمة»..
قال الناقد: «القصيدة العربية القديمة ليس لها مخطط.. والشاعر العربي صياد مصادفات من الطراز الأول؛ فهو ينتقل من وصف سيفه إلى جمال حبيبته»...) وما دامت القافية مواتية والمنبر مريحاً، فكل موضوع هو موضوعه وكل ميدان هو فارسه»..
«أما الشاعر العربي في العصر الحديث.. فاللغة لديه ليست غاية بحد ذاتها، ولكنها مفاتيح إلى عالم أرحب وأبعد.. وقيمه الحروف تكون بقدر ما تثيره حولها من رؤى وظلال، وبقدر ما تبعثه من إيحاءات» (ص 307) فالبون شاسع بين شعر يقوم على المعنى الفريد والبحر اليتيم، وتكون البراعة فيه على قدر التحكم في تصريف اللغة والتفاصح في الأداء؛ ولكن دون أن يدفعك هذا الشعر إلى شيء لا نعرفه أو يفاجئك بأصقاع غريبة، لأن الشاعر فيه لا يبنى عالماً وإنما يستعرض العوالم الموجودة، بينما تغيرت مفاهيم الكتابة الشعرية في العصر الحديث، وأصبح الشعر اكتشافاً ورحلة زاده الرّؤى وميدانها عوالم لا تنتهي ومنهج دلالتها الإيحاء.. يقول: «ففي الشعر.. لم يعد ذوق إنسان العصر يُطيق مواضيع الشعر التقليدية، وتلك المطولات التي يزهو الشاعر بشرود قوافيها وزحمة التشابه والاستعارات فيها.. ربما كان السبب هو أن الوقت لم يعد يتسع لمثل هذا الغثاء» (ص 334). ويزيد صاحبنا تدعيماً لهذه الفكرة بالرد على من يناوؤون التجربة الحديثة ويقفون في وجهها، بدعوى أنها خروج عن القواعد والأصول، وابتعاد عن الثوابت.. فيقول لهم في لهجة جازمة قاطعة.. «ليس في الفن أشكال نهائية أو أبدية.. فالأثواب الجاهزة لا تطيقها أجساد الموهوبين، وكل موهوب يختار الثوب الذي يستريح فيه» (ص 318). ثم يثني بأن العباقرة والموهوبين في استطاعتهم الخروج عن القواعد ببناء قواعد وأنماط جديدة يقتدي بها من يأتي بعدهم، إلى أن يجدّ عبقري في حجمهم فيخرج عليهم.. هكذا هو التاريخ وتاريخ الفن على وجه الخصوص. وهي فكرة استقاها عزيز ضياء من الفيلسوف الألماني كالنط. (ص 321)، ثم يرد عليهم بشكل غير مباشر في دعواهم، أن الشعر الحديث لا إيقاع له ولا وزن، ولذلك افتقد أهم مكون من مكونات الشعر وهو الموسيقى، ويرد عليهم بتذكيرهم أن الموسيقى أنواع وأنهم لا يعرفون منها إلا النوع الرتيب البسيط، الذي يقوم على مفردات موسيقية ليس فيها كبير تنويع، بينما الشعر الحديث أقرب إلى الموسيقى السيمفونية التي لا يكون التناغم والانسجام فيها في المكونات الصغرى؛ وإنما ما يحصل عن اجتماعها ودخولها في معرفة واحدة تحقق التلاحم بين المفردات والاتساق:
« البناء الموسيقي في قصيدة الشاعر الحديث مركب من فلذات نغمية.. وتنخفض.. تصطدم وتفترق. ترقى وتقوى.. تهدّ وتنفعل..
من هذه الفلذات النغمية.. من هذه الحركة الدائمة.. والمتناقضة في نفس الوقت، ينطلق البناء الموسيقى للقصيدة.. وهو إلى البناء السيمفوني أقرب منه إلى دقات الساعة الرتيبة» (ص 319)..
ولا تخفى على القارئ الحصيف دلالة المقارنة، كما لا يخفي عنه الطرف الذي لم يذكر في هذا التشبيه المركب.
إلا أن الرجل على تمام الوعي، بأن هذا النوع من الموسيقى لا يتوفر لكلّ من أراد، إنما سمة الموهوبين من أهل الفن والشعر، ولذلك تراه في أكثر من وقفة من هذه الوقفات وهو العارف بما ينشر من الشعر في الصحف العربية من محاولات؛ لا تتوفر لأصحابها أصالة الفن وعمق الرؤية، يذكر أصحاب تلك المحاولات بخلو ما ينشرونه من مقومات الشعر الحق.. وما قد يبدو للقارئ المتعجل تراجعاً، إنما هو تذكير بأن ما قاله يتعلق بالتجارب الكبرى والمعالم الشامخة، لا سيما ما يأتي يه الريّضون (1) الذين يظنون أن الإبداع هو مجرد تحرر من الأصول والقواعد لا غير.. يقول: وانتهت الكوجة (2) إلى الشعر، ورأينا ما لا يزال ينشر من محاولات، يبدو أنها تلقى ترحيباً من عشاق الرفض والتحرر.
ولكن يظل السؤال الحائر الذي لا بد أن نسمع الإجابة عنه من النقاد هو:
أين الشعر؟ وأين الفن في كلّ ما يتلاحق من عطاء الشعر والفن في هذه الأيام؟» (ص 322)..
تؤكد هذه الوقفات ثقافة الرجل الواسعة وباعه العريض في ميادين الرسم والموسيقى والشعر، ما تبين عن نفس جادة بأن التطور سنة الحياة، وأنه لا بد أن يؤثر في مناحيها كلها، بما في ذلك هذا الجانب الروحي الأساسي في حياة الإنسان. ولكنه مع ذلك حريص كل الحرص على التفريق بين رسام ورسام، وموسيقار وموسيقار، وشاعر.. إن الفيصل بين النوعين رهافة الحس وبعد الرؤية، والقدرة على انتزاع موضوعات يمكن تجسيمها في فن راق، يساهم في الرفع من وعي الناس وتبصيرهم بوضعهم، والعمل على الرفع من مستواهم بتغذية عقولهم ونفوسهم بالفن الأصيل، الذي يفتح أمامهم عوالم جديدة ويحفزهم إلى التقدم والتطور في كنف انسجام الفن وعميق تأثيره.
***
1- هم قليلو التجارب.
2- هذه الكلمة لم أجد لها أصلاً في اللغة العربية، لعلها كلمة عامية أو تركية.
جدة