توطئة: عندما نظَّم نادي المدينة المنورة الأدبي ملتقاه الثقافي: (العقيق) في دورته الرابعة, تحت عنوان: (الحركة الأدبية بالمدينة المنورة في العصر الحديث), وجدت أنّه لم تكتب إلا دراسة واحدة عن تجربة شعرية متميزة - كانت ضمن سياق تلك الحركة مكاناً وزماناً وموضوعاً وهي تجربة الشاعر حسين العروي - قدّمها الباحث الأستاذ سعد الرفاعي.
ولأن تجربة العروي تستحق أكثر من دراسة لحيثيات ومسوغات موضوعية - سأعرضها لاحقاً - شرعت في كتابة هذه المقاربة/ الشهادة عن تلك التجربة, كما شهدت بداياتها وتابعت القراءات حولها, وحيث لم أفرغ منها إلا بعد نهاية الملتقى رأيت تقديمها من خلال هذا المنبر: (الثقافية).
- في العام 1412هـ أصدر الشاعر حسين العروي ديوانه الأول «لم السفر نبوءة الخيول بشائر المطر، قصائدي انتظار ما لا ينتظر» (1).
كان الشعر في المدينة قبل هذه الفترة وأثناءها حاضراً بشعرائه وإنتاجهم، وكان من بين أولئك الشعراء من يعدُّهم النقاد والدارسون رواداً في حركة أدبنا الوطني، وكان ثمة عناية ومتابعة لهذا الشعر، كما كانت موجة التحديث في بناء القصيدة العربية في بلادنا قد بدأت قبل ذلك التاريخ بسنوات, بما يوافق زمنياً الثمانينيات الميلادية, وشغلت تلك الموجة الشعراء والنقاد والساحة الثقافية بأكملها، فثمة سجال محموم بين رموز الطليعة النقدية في شقيها التقليدي والحداثي، لكل موقفه ومناصروه، وكنت وجيلي نتابع هذا الحراك، ونبحث عن بعض نداوات فيضه، وإن بوعي وقدرات - لدى بعضنا وكاتب هذه السطور منهم - لم تتبلور بعد كموقف مؤسس على معرفة ودراية وخبرة، ولم تسنده مرجعية قرائية معمقة.
كان العروي من جيل يسبقنا بقليل، وكان وعينا وذائقتنا مرتهنين لسائد ومألوف ما ينتجه شعراء المدينة، وندرك أنهم ومع عمق إسهام كل منهم في مسيرة الشعر في بلادنا, في مستوى الجيد والمتميز غير المختلف، حتى وإن تجاوز وعينا بحضور الشعر ومتابعتنا له خارج المدينة في سياقه الوطني - مكاناً - والعربي كذلك.
وكان بعض ذلك الشعر - خارج دائرة المدينة - قد سُجِّل في منجز شعراء الحداثة.
أو ما اتفق على وصفهم بذلك، وفقاً لهذا التصنيف النوعي والمرحلي, ولن نلج إلى ملابسات وتمثلات ذلك وتداعياته, ولكننا نقول: إنَّ النص الذي كتبه شعراء الحداثة في تلك الفترة قد جاء تحولاً في سياق الوعي الشعري وتشكلاته، وفقاً لما مثله ذلك النص في شكله وجوهره، فكان حداثياً بحق، وكان كسراً لنمط التلقي ولوناً جديداً نتلقاه, وكان له من شروط الوعي بالحداثة ما يحقق له التميز, ولشعرائه ذلك القدر من الحضور والمتابعة.
حيث يؤسس لمرحلة تختلف عما سبقها, ولذلك اعتُبر تحولاً في مسيرة التجربة الشعرية في بلادنا.
كل ذلك مع الحفاوة النقدية واللانقدية التي واكبته وكان يستحقها, في إطار الجدة والمغايرة والوعي المرحلي وظروفه.
إلا أن عام 1412هـ قد شهد كذلك صدور ديوان الشاعر حسين العروي، الذي لم يُقرأ في سياق ذلك المنجز الحداثي ونظم وتقاليد استقباله.
ولم يُقرأ في دائرة الزمرة الحداثية من تلك الأسماء المهمة في ديوان شعرنا المحلي، ولا في سياق اختلاف تلك المرحلة - في المدينة أو خارجها - عما قبلها؛ لأن له سياقاً خاصاً به, وله منطلقاته وفلسفته الإبداعية, ورؤيته للذات والكون والحياة, وله نظام تشكُّل يميزه, مخالفاً نظام القصيدة التقليدي ومفارقاً في الوقت نفسه المنجز الشعري الحداثي.
- كان الناقد الدكتور عبد الله الغذامي، في مقدمة ركب الطليعة النقدية الحداثية، لا يكف عن خوض جدال محتدم حينها حتى يلج في جدالٍ آخر، وكان التعويل عليه في الذهنية النقدية أو حتى العقيدة الأدبية والثقافية الجمعية فارساً لذلك المشهد، واسماً تدور حوله الأضواء.
مثيراً الاهتمام والإعجاب والرفض والجدل, وإن بقدر يعوزه التأني والتحرير المنهجي والعقلاني للرؤى المتضاربة, وتختلط فيه الأهواء بالمحركات والدوافع, التي كانت الساحة تحفل بها حينئذ، والتي كانت تتطلع إلى مقالاته وأطروحاته بحرص شديد.
وشهدت تلك الفترة ذروة إنتاجه النقدي متمثلاً في كتب عدة، منها: (الخطيئة والتكفير, وتشريح النص, والصوت القديم الجديد, والموقف من الحداثة, والكتابة ضد الكتابة, وثقافة الأسئلة).
وقد كتب في العام 1410هـ، أي قبل صدور ديوان الشاعر العروي بعامين، في ملحق ثقافة اليوم بصحيفة الرياض، مقالاً جاء فيه: «كان رمضان شهراً كريماً علي؛ إذ فيه وجدت متعاً كثيرة, وبعض هذه المتع جاءت من دخولي عالم مبهج من الكتابات الإبداعية المفرحة؛ فقد غالبني على نفسي ديوان مخطوط - لم ير النشر بعد -للشاعر المدني الشاب حسين عجيان العروي, جاء الديوان بعد أن بحثت عنه وعن صاحبه.. ولقد قرأت الديوان بعد وصوله إلي مرة فذُهلت, وقرأته أخرى فأصابني داء الأستاذ عزيز ضياء, وهو داء الأعمال الجليلة المذهلة.. إنه الدوار, وقرأته ثالثة قراءة قادتني إلى القراءة الرابعة وإلى قرار الكتابة عن الديوان, وهو عمل يتحدى كل ناقد وعى سلطة الكتابة وعاناها, ولن أستطرد في الحديث عن العروي وديوانه؛ لكي لا أفسد على نفسي مشروع الذهول والدوار.. ولكني أقول للقراء: سجلوا في ذاكرتكم اسم حسين عجيان العروي, وانتظروا اللغة التي تُرعب وتُذهل, إنها لغة الإنسان إذا أبدع, ولغة الصادق إذا قال» (2) فالدوار والذهول والرعب والتحدي هي النتيجة التي انتهى إليها الناقد الغذامي, بعد قراءة ديوان العروي أربع مرات.
فهو لم يتلق الديوان مطارحاً جماليات بناء نصوصه، ولم يبشر به مثالاً للنص الجديد الذي كان يحفل به ويبحث فيه عن تمثلات ودلائل النظرية.
كانت القراءة الصدمة هي حالة لقاء الغذامي بشعر العروي؛ لأنه كان صدمة لذائقته ولشروط تلقيه ولأفق انتظاره، فرآه شاعراً يذهل ويبدع ويصدق، وقد ظلت هذه القراءة الصدمة تتحلل في وجدان وفكر الناقد عامين.
سعى خلالها إلى أن يشاركه القراء تداعياتها من دوار وذهول وإبداع وصدق؛ فكان وراء إصدار ديوان الشاعر عن نادي جدة الأدبي.
في العام 1412، وبعد صدور ديوان العروين، وبعد مقالة الغذامي بعامين، كتب الغذامي كذلك في صحيفة الرياض مقالاً بعنوان حسين العروي: «انتظار ما لا ينتظر»(3) موظفاً الجملة الأخيرة في ديوان العروي، ومحققاً فيها تداعيات القراء الصدمة, التي صارت يقيناً أكيداً ومساحة من الاستقراء الهادئ والتأمل الدقيق؛ لأن العروي لم يكن في وارد مألوف الحداثة الشعرية المحلية ولا في إطارها المتوقع.
ولذلك عدَّه أحد منظريها «انتظار ما لا ينتظر, فنصه ليس بالعمودي - وإن اتخذ شكلاً عمودياً - وهو ليس بالحداثوي وإن تفتحت فيه اللغة تفتحاً حديثاً, إنه غير هذا وذاك, إنه نص مغاير ومختلف, وهو نص يعرف كيف يتخلص من كل النصوص لكي يكون - هو لا غيره - يكون هو بجيده ورديئه، بما له وما عليه، أن يكون العروي هو العروي، لا متنبي عصره، ولا سياب جيله، ولكنه العروي، عروي زمانه، وعروي شعره.
هو ليس أبا تمام، ولكنه يذكرنا بأبي تمام، ويذكرنا بموقف الاندهاش الذي وقفه ذلك الأعرابي حينما سمع إلى أبي تمام ينشد شعره المختلف والمغاير فقال الأعرابي: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل» (4)
- هكذا يرى الغذامي شعر العروي؛ فبعد التحدي والرعب والذهول والدوار يخلص الناقد إلى أن هذا الشاعر مختلف.
لا يماثل ولا يشاكل، ولا يمكن أن يختزل دهشته إزاء هذا الشعر باستعارة رمزية تحيل إلى مثال يقرِّب أو يبرر ذلك الذهول؛ فيقول إنه متنبي عصره أو سياب جيله.
حتى وإن وقف القارئ أمامه كما وقف الأعرابي أمام شعر أبي تمام, فإنه ليس بأبي تمام، وهو هنا يجعله خارج إطار المماثلة، حتى وإن كانت للنماذج الكبرى المتميزة في ديوان الشعر العربي؛ لأنه غيرها ومختلف عنها.
ولكن هل يُسلمنا النفي وتجاوز نسق المماثلة وتحقق الاختلاف إلى معرفة كنه هذا الشاعر وقيمة إنجازه؟ يقول الغذامي: «نحن أمام شاعر لا نعرفه، وهذا الشاعر المجهول يأتي قوياً وعنيفاً وواثقاً من نفسه ومن شعره، يضع قصائده بديلاً عن السفر وعن نبوءة الخيول، وعن بشائر المطر.. وفوق ذلك اسم الشاعر جديد لم تصفق له المنابر، ولم تزفه الملحقات الأدبية، هذا الواثق من نفسه من يكون؟ من أي ذاكرة جاء؟ وإلى أي ذاكرة سيؤول؟ وأي قصائد هذه التي تحل بديلاً لنا عن كل المغامرات الشعرية والإبداعية في السفر والخيل والمطر؟ كل الأسفار وكل الخيول وكل الأمطار، هذه بديلة البدائل من أسفار المتنبي وخيول امرئ القيس ومطر السياب كلها تقف عنا ونقف عنها لننصرف منها إلى انتظار ما لا ينتظر قصائد حسين العروي. أي ثقة هذه وأي شعر هذا؟» (5)
لقد أفضى الغذامي من خلال ما قرَّره من اختلاف ونفي مماثلة, إلى نفي آخر وأسئلة أخرى: شاعر لا نعرفه، شاعر مجهول قوي عنيف وواثق، من يكون ومن أي ذاكرة جاء وإلى أي ذاكرة سيؤول؟ وأي قصائد هذه التي تحل بديلاً عن أسفار المتنبي وخيول امرئ القيس ومطر السياب، أي ثقة هذه وأي شعر هذا؟.
- فهل قدَّم الغذاميُ العروي أم بشَّر به؟.
أم وقف أمامه موقف الأعرابي من شعر أبي تمام؟.
هل هو تَحقق المعرفة وإدراك اختلاف هذه التجربة وسبر أبعادها؟ أم هي تداعيات الذهول والصدمة؟.
هل حمل اختلاف العروي سراً جعله يتأبى على المقاربة النقدية, والتحليل النصي وإنزال تجربته المنزلة التي تستحقها؟.
لا شك أنه ناقد (أدبي) - حينها - كالغذامي, لا يزال حتى بعد القراءة الثانية.
وبعد مكث الديوان لديه حولين كاملين يراوح فيما سماه بالمسافة الجمالية نقلاً عن (ياوس)، وهي «المسافة بين ما يتوقعه قارئ ما أو مجموعة قرّاء عن نص معين، وما يقدمه النص من اختلاف يغاير ذلك التوقع، وبمقدار ما تكون هذه المسافة يكون الإبداع والتميز، وتكون عظمة النص وجودته» (6)؛ ولذلك ظلَّ هيَّاباً من مقاربة شعر العروي، مرتهناً للحظة الذهول ومتعة القراءة ولذَّة النص.
لمَّا تستقر به في نفسه موجات الاندهاش من اختلاف هذا الشعر واختلاف هذا الشاعر.
فختم مقالته السابقة بقوله: أي شعر هذا؟ وفي مقال لاحق تابع الإجابة عن ذلك السؤال: أي شعر هذا؟ فكتب تحت عنوان: «قد يأتون بعد غدٍ» مستلاً الجملة من إحدى قصائد العروي، وقارب عنوان الديوان والنص المدون على غلافه الأخير.
ورأى أننا «أمام نصين يمنحان المكان قيمة، ويؤمنان للموقع بقاء يتوازى مع بقاء هذا من جهة، ومن جهة أخرى يأتي هذان النصان ليتدخلا مع بعضهما، لتكون منهما شبكة دلالية وإيقاعية، تتماثل مع ما ستجده داخل الديوان» (7) ومن ثم يخوض الغذامي في تحليل هذين النصين مقارباً بنيتهما الدلالية، وينتهي إلى البيت الأخير:
«غداً أسافر قد يأتون بعد غدٍ..
يستفهمون فلا تستقبلوا أحداً» فيراه «إشارة سافرة إلى هؤلاء الذين سيأتون متأخرين لكي يستفهموا عن الشاعر وعن «شعره» ولن يجدوا من يستقبلهم لأن هذه القصائد انتظار ما لا ينتظر..» (8)
كانت هذه المقالة الثالثة التي كتبها الغذامي عن ديوان العروي، ولما يزل الغذامي يقارب تخوم الديوان عنوانه وغلافيه، حذراً من الخوض في تحليل تفصيلي لا يفي بكشف جوهر اختلاف هذه التجربة، أو يتداخل معها على نحوٍ ينتظره قارئ الغذامي، ومن ثمَّ قدَّم بالتأكيد على اختلاف التجربة والذهول والدوار الذي مسَّه إزاءها.
وقد وضع في هامش هذه المقالة ما نصه: «هذه هي الحلقة الثانية من حلقات عن ديوان الشاعر حسين العروي» (9)، وهذه الإشارة تعد القارئ وتمنيه بأن ثمة قراءة موسعة, تقدم هذه التجربة بما يستحقه تميزها وتجاوزها للسائد، وبما يجلِّي مكانتها في مسيرة الشعر المحلي، وبما يكشف عن الاختلاف الذي ألحَّ عليه الغذامي كثيراً في مقالاته السابقة عنها.
ولكن هل فعل الغذامي ذلك؟.
المدينة المنورة