Culture Magazine Thursday  17/06/2010 G Issue 315
فضاءات
الخميس 5 ,رجب 1431   العدد  315
 
أمام مرآة «محمد العلي»
المرأة (الأنثى- الجسد)
علي الدميني

افتتح الشاعر قصيدته»طرْقَةْ» بشهقة العاشق:

« صدع الباب، فاشربي يا

أذنيّ واروي به ظماء الأماني»

واختتمها بـ:

« هتف الحظ يا مناي فأطرق

أيها الدهر واجمدي يا ثواني

وانفجر أيها الربيع بأغصاني

فقد سال لحظه في كياني». (الديوان - 206)

منذ تلك الفورة الوجدانية والحسية المبكرة التي كتبها في عام 1954م، لم نقرأ له بعدها أي تجربة عاطفية تتمحور حول علاقته بالمرأة، روحاً، أو كينونة، أو جسدا، طوال مرحلتي الهجرة الأولى والثانية، إلا ما نلحظه في توظيفه لها كجسد لغوي محمّل بالدلالات أو كبعدٍ»أنتولوجي» يغدو فيه الجسد مقراًً للوجود وسكناً للذات، ومن ثم تأخذ المرأة موقعها الرمزي كعنصر عن عناصر بناء النص، وتعميق دلالاته الكلية.

غير أن مرحلة الهجرة الثالثة ستفاجئنا بقصائد عديدة حول (الأنثى/الجسد)، حتى وإن نأت عن تجربة الغزل الشعري المعروفة (وجدانياً وجسدياً) وتخفّت تحت رداء الحالة الشعرية التأملية، ومنها (كاشيرة، شو بدّك، يقين القمر، حفيف، كلمات مائية، جسد، وقوفاً بها).

ولعل مخيال» الماء والخضرة والوجه الحسَن» قد التقى بمحرضاته المستجدّة في مناخ «لبنان» التي تمثلت في»الحرية، والجمال، والتأمل»، لتستحث شاعر التجربة الإبداعية والزمنية الطويلة على الانفعال بجمرها وتخليقها شعرياً كما يشاء.

وفي هذا السياق يمكننا الوقوف على عدد من طرائق اشتغالات شاعرنا على توظيف حضور المرأة (الأنثى/الجسد) في نصه.

أولها: ما نراه متسقاً مع ما ألفناه في مختبره الشعري من توظيف للمرأة كحضور لغوي، حافل بممكنات الترميز وتعميق فاعليتي الإبداع والاستجابة لدى القارئ، ومن ذلك ما نقرأه في قصيدة» في السوق»:

« كان يحدّق بذهول ٍ أعمى

في سيدة ٍ

تشتري عقداً

سيدة ملء اللهفة

ملء الشعر» (الديوان - ص 140)

فالمرأة هنا (ملء اللهفة..ملء الشعر) تقع في بؤرة انفعال الشاعر بها كأنثى، ولكنها لا تبقى في ذلك المكان، بل تغادره حينما تأخذ موقعها في كليّة النص كدال على مفارقات حضور الجمال ونقيضه الفاجع، ما بين حالة افتتان الشاعر بها، وحالة تحديق عيون فقراء الأرصفة في عقدها الثمين أو السمين!

«عيون نشبت فيه من الأرصفة

وحار

هل ينظر إلى السيدة

أم إلى العقد؟»

وثاني تلك الاشتغالات: يأتي عبر شعرية تأمل الجمال الأنثوي، بعيداً عن أي توظيف أو ترميز، فيتولّه بها كما في»يقين القمر»، ونفتتن بالقصيدة حين نقرأ هذا الخلق الشعري الذي لا يمتلك القدرة على ابتكاره، إلا شعراء الحداثة الكبار أمثال»محمد العلي»، إن لم نقل أن هذه الصورة الشعرية المبهرة لم يرسمها أحد قبله:

« ثم مرّت كمن يترشّف همساً

كمن يأخذ النهر في يده ِ

ثم يطلقه في احورار التلفّت»! (الديوان - ص 142)

وسنجد ذلك التأمل وقد تخلى عن قليل من التجريد الشعري، واقترب من التوصيف الكنائي السردي، لتشكيل أنموذج إبداعي آخر في قصيدة «كاشيرة»:

« هي تعرف أن الذين أتوا

يسترون نواياهمُ

بشراء البصل....

لا يقصدون

سوى فرح الورد في وجنتيها

ولون اللهيب المغرد

في شفتيها». (الديوان - ص 93)

وفي نص («شو بدّك»، الذي لم ينشر في الديوان!)، سنرى تحول الانفعال الوجداني بالتجربة من تأمل وصفي خارجي إلى تفاعل حواري داخلي ينتهي بما يشبه الملهاة الساخرة:

لم ترني

بل رأيتُكِ

أين؟

رأيتُكِ إذ كان قلبي صغيراً يسائل سرب العصافير عن عشه المتلفّع بالغيب، أو بالسراب

و رأيتكِ إذ أصبح العمر حقلاً يحنّ إلى القطف حتى الغصون الأخيرة قبل اليباب

و رأيتكِ إذ أعلن الشعر نيرانه في مدى رؤيتي وعروقي.»....

أو هلا شو بدّك؟

(بدّي اتجوّز عا العيد)!! (محمد العلي -شاعراً ومفكراً ص 454).

وثالث هذه التجليات، سنقرؤه في قصائد» الجسد» التي تشكّلت من التقاء ذرى الشعرية المتألقة مع تراجيديا محرضها الكامن في ذرى رحلة العمر الطويلة، حيث ينطبق عليها تعبير لافت للناقد صبحي حديدي عن أحد الشعراء من أنه كان يمارس الكثير من حالة المراوحة بين» الإيحاء بما لا يوصف لأنه يفوق الوصف، وبين مقاربة العديد مما يوصف بالفعل، لأنه يساهم في توسيع إيحائية ما لا يوصف» (بسام حجار وإبراء الشعر من اللغو- موقع ashiaa.ne).

ويمكننا تلمّس هذه الحالة في قول الشاعر في نصه السابق:

« ورأيتك إذ أصبح العمر حقلاً يحنّ إلى القطف حتى الغصون الأخيرة قبل اليباب»،

كما تتجلى بشكل أكثر سطوعاً في قصيدته» حفيف»:

« بعد أن دخل القلب صحراء أيامه الطاعنة،..

ولكنه يسمع الآن قرب الشغاف حفيفاً

كضحك المرايا التي أشرعتها

شهود مراهقةٍ نسيت ظلها في أتون السهر». (الديوان - ص 171)

إنها عودة «الشيخ» إلى صباه، أو فلنقل بشكل أكثر دقّة: إنها محاولته الوجدانية لاستعادة مخيال فوران الصبا والصبوات من أجل الاستمتاع بحسية الجسد الأنثوي، ولكن تلك العودة ستبلغ قمة إيحاءاتها الساخرة، بما يشبه تراجيدية رحلة «سنتياجو» العجوز لصيد السمك، في رائعة»همنجواي» (الشيخ والبحر)، حين لا يعود من مغامرته إلا برأس السمكة وهيكلها العظمي!

وسنعرض لثلاثة نصوص صار فيها»الجسد»، صفةً وإيحاءً وتشكيلاً، جوهر انفعال الشاعر بتجربته الإبداعية:

في النص الأول»جسد»: سنغادر كل ما اختزنته الذاكرة الشعرية والتجربة الشخصية من سمات فتنة الجسد، وحسيته، التي ننفعل عادة «بلذة» استعادتها كتناسق حسي بين مكوناته الجمالية، من العينين إلى...الساقين..الخ، لنقف مع الشاعر وقد اختزن كل تلك التفاصيل في لاوعيه، ثم عمل على إعادة خلقها من جديد، في وقفات، أصبح فيها»الجسد» أفقاً لغوياً مفتوحاً لكل واحدٍ منا لتشكيل الجسد الذي يحلم به:

جسدٌ من أساطير

جسدٌ من مواويل

جسدٌ من مواعيد

جسدٌ من قُبَلْ..

جسدٌ من مرايا

جسدٌ من فراعنةٍ خُلقوا من جديدٍ على النيل

جسدٌ..من جسد! (الديوان - ص 162)

ونصه الثاني في هذا المنحى هو» كلمات مائية»:

وقد استعار الشاعر هذا»العنوان» المكتظّ بإمكاناته التأويلية، من زاوية صحفية شهيرة كان يكتبها لجريدة الحياة» خلال عام 1420هـ، ليعمل كأشباهه التي يصوغها الشاعر بعناية رهيفة وحاذقة، كعتبة أساسية ندلف منها للتعرف على بؤر النص وجداله الداخلي وفكّ شفراته.

ولكن العنوان هنا سيبقى مجرد تسمية محايدة لا نتعرف على فاعليتها إلا بعد قراءة النص المشغول بأسلوبية شديدة الاختلاف عما ألفناه في أعمال شاعرنا، بل سأذهب أبعد من ذلك للقول بأنني لم أطلع على قصيدة من قبل استخدمت هذه التقنية بتلك المهارة الفائقة التي نجدها في كتابة هذه القصيدة.

نصنا هذا يتكون من كتابتين لتجربة واحدة في استنطاق فتنة الجسد، أسمى الأولى»مسودة» والثانية «مبيضة».

« المسودة» ستبدو بعد انتهائنا من قراءة القصيدة، مثل حلم منام أو حلم يقظه، ينهض الشاعر فيها «كالعنقاء» من الرماد، ليصول ويجول أمام ارتعاشات جسد «الجميلة» المقمرة.

ولكن الجميلة ستقول له وهي تضحك:

« أيها الجمر

إني رمادٌ

أتعلمُ؟

منذ الولادة كنت رماداً

ولا جمر لي!!»

أما» المبيضة» التي ستتبدى كبياض الحقيقة، فتوغل في مكرها حين تستحضر نفس تفاصيل الحلم وتعمل على تنزيله إلى مستوى الملامسة الواقعية، فتدخل»الجميلة» نفس المكان، لتشاركه نشوة اللحظة:

« كان منتشيا ً

وهو يحصي البراعم في شفتيها...

كان عيدٌ يسامر عيداً على ضفّةٍ ثانية

وحين أتاه الصدى

ليوقظ أجنحة ً ظنها في الدماء

لم يجد غير تلك الطلول البعيدة»!! (الديوان - ص 109)

لقد فرّت أوهام جواده (المكرّ) وعادت إلى رمادها ثانية، ولم يعد له إلا هجاء صاحبه «امرئ القيس»، ذي الطلول العنقاء، ومن ثم قيامه بتسمية هذا النص ب» كلمات مائية»، لا لتوصيف التجربة بعذوبة الماء، وإنما بما يشبه القول باستحالة الكتابة في الماء، لأن» العشق في الصغرِ كالنقش في الحجرِ

و العشق في الكبرِ..»!

أما النص الثالث فهو» وقوفاً بها»:

هل شعرت بعينيك وهي تمرّغ أحلامها بالجسد؟..

هل رأيت الجسد .....

و رغم ما تتسم به القصيدة من شفافية آسرة تلوح لنا في تجربة شقاء الجسد بالجسد وليس في الاستمتاع به، إلا أنها لا تستكمل البوح لنا بأعماق التجربة المولدة للنص وما تتضمنه من فراغات، إلا بقراءة عنوانها ضمن أفق:

«تجاوز النص لمطاردة»الأثر» في العنوان»:

لا يلعب»العنوان» هنا دوره المعتاد كعنصر تكاملي أو محرض جدالي لتنمية كتابة النص، ولكنه يأتي في هذه التجربة وكأنما قد انبنى على حمولة مضادة للنص من خارجه، وفق تقنية فنية مختلفة لشاعرنا، تحفّزنا على تتبع حمولاتها وأبعاد دلالاتها.

«وقوفاً بها» هي التسمية التي وضعها محمد العلي لزاويته الثقافية الشهيرة في مجلة «اليمامة»، وقد عبّر محتوى تلك المقالات عن دلالة صلابة الموقف وضرورة الالتزام به، وهو ما يتسق مع المعنى المباشر لتلك التسمية. ولكنه هنا استعارها في سياق إبداعي آخر وشحنه بدلالات مغايره، فأين نجد مرجعية تلك الإحالات؟

في مقالاته الثقافية المفعمة بالكثير من الحوارية والمشاكسة لآراء ومواقف المختلفين معه، تجادلَ وتصارعَ معهم على صفحات»اليمامة»؟

في هذه القصيدة؟

أم في النص الأصلي والأب المرجعي لتلك التسمية؟

أخالنا، ونحن نقرأ نصاً شعرياً يتعامل مع»حسية» الجسد، بشفافية لم نعهدها في مراحله السابقة، لن نجد مرجعيته إلا لدى صاحبها الأول!

و بحسب إطلاعي، وجدت أن تعبير» وقوفاً بها» ورد في معلقتي طرفة أبن العبد، وامرئ القيس، حيث يقول طرفة:

«وقوفاً بها» صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسىً وتجلّدِ

كأن عذوق المالكية غدوةً

خلايا سفينٍ بالنواصف من دَدِ.

أما أمرؤ القيس فيقول:

« وقوفاً بها» صحبي عليّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسىً وتجمّلِ

وإن شفائي عبرةٌ مهراقة ٌ

فهل عند رسم دارسٍ من معوّل؟

وقد حفلت بعض قصائد شاعرنا بتعالقات نصية مع كلا الشاعرين، (طرفة في قصائد البحر، وامرئ القيس في مناسبات أخرى)، ولكننا بالتمعن في قراءة الأبيات السابقة نستطيع تحديد مرجعية»تسمية» العلي لقصيدته،حتى وإن لم نقم بقراءة كامل المعلقتين!

ذلك أننا باستذكار الحسية الجسدية في تجربة امرئ القيس مع حبيباته، وما يرد في معلقته من مثالات الحزن والانكسار، لاسيما في بيته الشهير:» وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله..عليّ بأنواع الهموم ليبتلي»، إضافة إلى ما رأيناه في قصائد شاعرنا من إحالات على» غديره»، ستصبح مرجعية بيت أمرئ القيس ومعلقته، هي الأكثر تعبيراً عما تخبئه استعارة عنوان هذه القصيدة من معنى الاستنجاد بمخيال قدرات الشاعر الجاهلي الحسية، وكذلك بما تخبئه سيرته من الجانب الآخر من أسرار (فشله الجسدي)

وهنا سنرى العنوان وقد انزاح عن معناه المباشر الدال على الصلابة والثبات والوقوف بها، وعن دلالاته في زاوية «العلي» المعروفة، وعاد إلى موقعه الأصلي في بيت امرئ القيس وتجربته حين أطلّ « بدمعة مهراقة» على رسم دارسٍ، يعني رحيل الأحباب أو افتقاد الشاعر لحسيته الجسدية، ليلعب»العنوان» هنا دوراً موازياً في قصيدة» وقوفاً بها

وبهذا التلاحم بين حمولات « الحال» الدال على الاستمرارية والقوة في» وقوفاً بها»، وبين دلالات بعده التراثي واندماجه في تجربة القصيدة، نقف على جوهر مفارقة ساخرة وعميقة الغور، وظفها شاعرنا (على المستويين الفردي والوجودي)، لإغناء مفارقات الدلالات الكلية للصبوات الحسية والآمال البشرية، وانكسارها في تجربة النص أو الحياة، كدراما وجودية كبرى مرتبطة بصراع الإنسان مع رحلة الحياة وسيرورة الزمن.

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة