في عامها الثاني فقط حُجبت جائزة مكة للتميز عن فرع الثقافة، وجاء التفسير بأن الأعمال المرشحة لم ترقَ لدرجة التميز والإبداع. كان الوقت مبكراً جداً لينضب المعين الثقافي بهذه السرعة في منطقة ثرية بتاريخ حافل من الحراك الفكري والأدبي والفني والتراثي. توقفت طويلاً عند هذا الحجب الذي لم يتوقعه أحد، وتألمت من كل أصبع اتهام راح يشير بلا هوادة إلى المثقفين أنفسهم الذين هم الأجدر والأحق بصفة الإبداع والابتكار، ورغم ذلك أظهر الحجب أن ليس من بينهم من يستحق الفوز بالجائزة!! وعلى الرغم من توضيح سمو أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل بأن الضعف يكمن في جهات الترشيح التي لم تقدم أعمالاً حازت على استحسان أعضاء لجنة الجائزة، إلا أن التهمة كانت قد تمت صياغتها وتداولها: «غياب المشاريع الثقافية المعرفية المثمرة في منطقة مكة المكرمة»، ثم حامت الشبهات حول الأنشطة الثقافية التي تقوم في المنطقة وعن جدواها وقيمتها، وطالت المؤسسات الثقافية الخاصة والرسمية ووصمتها بالتقاعس وانعدام الفاعلية.
كيف تبدل الحال هكذا في مدى عام واحد؟ السنة الماضية كان هناك مرشح أظهر التميز الثقافي المنشود ونال الجائزة بجدارة، فقد حصدها الشيخ عبد المقصود خوجة عن نشاط اثنينيته نظراً لإسهامها في إثراء النشاط الثقافي في المنطقة، وفي طباعة العديد من الكتب والمؤلفات الثقافية. فهل كان ذلك المستوى من التميز هو ما انتظرته اللجنة في هذا العام؟ هل وضعت الاثنينية مقياساً معيناً، ومسطرة محددة، يصعب مجاراتها، بل يستحيل محاكاتها؟
حينما قرأت الإعلان عن الجائزة في العام الماضي استبشرت بها، ونظرت بثقة تامة إلى مشروعي في جمع التراث الشعبي الحكائي لمنطقة مكة المكرمة وإعادة إنتاجه، ثم قررت أن أتقدم به للمنافسة، فقد حسبته مناسباً جداً، ففيه أصالة وابتكار، وهو نابع من روح المنطقة، وقد قمت بتطويره ليتناسب مع أهواء العصر الحديث، ولو قدر له الفوز، فسيكون في ذلك احتفاء بالذاكرة الشعبية والخيال الجمعي للمنطقة بأكملها. أذكر أنني حملت منتجاتي وحاولت أن أصل بها للأمارة، لكن الشرط كان أن ترشح عملي جهة ثقافية، وألا أتقدم به بنفسي. فعرضت المشروع على الجامعة، لكنها رفضت لأنه عمل غير أكاديمي، وعرضته على الأندية الأدبية، لكنها رفضت لأنه عمل شعبي وعامي. لم يبق إلا أن أتوجه بالمشروع إلى جمعية الثقافة والفنون، فنسق لي سعادة الدكتور بكر باقادر لقاء مع رئيس الجمعية عبد الله باحطاب، فقبل مني المشروع ورفعه (كما قال لي، وبدون سند استلام) مع مجموعة من الترشيحات تعدت الـ300 عمل.
يبدو أن الجمعية فهمت أن دورها كان منحصراً في استقبال الأعمال ورفعها للجنة الجائزة لتقييمها، أما الأندية الأدبية فمالت إلى ممارسة دور التقييم وقبلت، أو رفضت ما وصلها من طلبات. وقد قرأت أكثر من مرة أهداف الجائزة، والتنظيم الفني لها، ومعايير الترشيح، وآلية الترشيح، وعمل أعضاء لجنة الجائزة، لكن نقطة التقييم هذه ظلت غامضة: هل المعني بالتقييم الجهة المرشحة أم لجنة الجائزة؟ هل من حق تلك الجهات رفض المتقدمين، وعلى أي أساس يتم ذلك؟ أم أن دور تلك الجهات هو استقبال الطلبات فقط ورفعها للجنة التي ستتولى التقييم ومنح الجائزة؟ كل ما تقوله الأنظمة هو ما يلي:
معايير الترشيح
يتم الترشيح للتحكيم النهائي وفق المعايير التالية:
- تحقق رؤية ورسالة وأهداف اللجنة الثقافية بمجلس منطقة مكة المكرمة.
- تحقق التميز في جميع الأعمال التي تقدم للمنافسة.
- توافر عنصري الأصالة والابتكار.
معنى ما سبق حسب قراءتي هو أن الجهة التي تستقبل الطلبات تتأكد من أن رؤية ورسالة وأهداف اللجنة قد تحققت في تلك الطلبات، وأنها متميزة، وأن بها أصالة وابتكار. الآن كل هذا الذي قرأته مبهم ومطاطي، ففي الوقت الذي تشترط فيه اللجنة رفع الأعمال التي تستوفي معاييراً خاصة بالترشيح كحد أدنى للمشاركة، إلا أن تلك المعايير يصعب جداً جداً جداً تطبيقها بالتحديد المطلوب، فمن الذي سيقيس التميز وبأي آلية؟ ثم إن الأصالة والابتكار تعني الجدة والأسبقية، يعني عمل فريد من نوعه ولا مثيل له، وهذا شرط صعب للغاية، لكن الأصعب هو تحقيق المعيار الأول، وهو رفع الأعمال التي تحقق رؤية ورسالة وأهداف اللجنة.
وتكمن رؤية ورسالة جائزة مكة للتميز في: «تكريم الجهد المميز والفكر المبدع في جميع المجالات الفكرية والعلمية والعملية في منطقة مكة المكرمة وذلك بإذكاء روح المنافسة للتميز والارتقاء بمستوى الأداء والجودة للمضي نحو العالم الأول». كيف ستترجم الجهات المرشحة هذه الرؤية إلى شرط يُستلزم استيفاءه ليتم الترشيح؟ الرؤية الرائعة والسامية والراقية لا تشكل معياراً للحكم على عمل ثقافي بأي حال من الأحوال، هي فقط تشرح منطلقات الجائزة وما تطمح إلى عمله. هي فقط تشير إلى أن العمل يجب أن يعكس جهداً مميزاً وفكراً مبدعاً، وهذا ما يختصره المعيار الثاني الذي يشترط التميز، وما أدراك ما التميز؟؟
هل يتخيل أعضاء لجنة جائزة مكة للتميز كم من الأعمال والمشاريع والأفراد تم رفضهم من قبل جهات الترشيح لعدم استيفائهم هذه المعايير؟ هل يعلم الأعضاء من هم أولئك الذين يُجْرون التقييم الأدنى وماذا يعرفون عن التميز؟ الاحتمال الأول إذاً في عدم ترشيح أعمال أو أفراد أو مشاريع تستحق التكريم هو أن التصفية الأولية لم تكن ولن تكون دقيقة ولا عادلة. أما أوضح دليل وأقوى حجة أستند إليها في حكمي هذا هو أن حجب الجائزة في فرع الثقافة هذا العام تم على الرغم من أن اللجنة استلمت ترشيحات نالت رضا الجهات المرشحة، لكن يبدو أن أعضاء اللجنة ارتأوا أن تلك الجهات لم ترشح من يستحق الفوز بالجائزة. كيف نفسر هذا التضارب بين ما قام به المرشحون من التزام بالمعايير المطلوبة، وبين رفض الترشيحات من قبل اللجنة التي وضعت تلك المعايير؟
ولكي أجد الاحتمال الثاني لحجب الجائزة لهذا العام، سأعود لقصتي في العام الماضي. قلت إنني تقدمت عن طريق جمعية الثقافة والفنون ضمن ما يربو على 300 مرشح، لكن أحداً منا لم يفز، ونال الجائزة صاحب الاثنينية التي يتم فيها تكريم الأدباء والمثقفين في داخل المملكة وخارجها. تكريم المُكرِّم كان مفاجئاً، فأنا وغيري من صغار المثقفين ذوي المشاريع الميني، لم يخطر على بالنا أن الجائزة كانت على مستوى الميجا والهايبر.
بعد إعلان النتيجة، حمل المثقفون الصغار أمثالي كتبهم ودواوينهم ولوحاتهم المتواضعة وتقهقروا بخجل شديد. من منا كان سيتحفز أو سيجرؤ على التقدم في العام الذي يليه وقد عرف ورأى على أي مستوى يكون التميز؟ الاحتمال الثاني إذاً هو أن جهات الترشيح لم يتقدم لها أحد!
حينما تم تكريم الشيخ عبد المقصود خوجة في أول دورة لجائزة مكة كان ذلك لجهد متميز، لكنه جهد تراكمي، أي أنه مشروع استغرق بناؤه 25 عاماً، وحين تُحجب الجائزة في دورتها الثانية، فذلك دليل فاضح على قحط ثقافي في منطقة مكة بأكملها على مدى 25 عاماً أيضاً. الفوز الأول سيكون معياراً ثابتاً، بل هو المعيار الأكثر وضوحاً وعليه وبه سيكون القياس سلباً وإيجاباً.
هل تجربة الاثنينية هي الوحيدة الجديرة بالترشيح والفوز فلا تجاريها ولا تماثلها ولا حتى تقاربها أو تليها تجربة ثقافية أخرى على مدى ربع قرن؟
منطقة مكة المكرمة تعج بالحراك الثقافي بكل أنواعه وأشكاله، وحجب الجائزة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعكس حالة ركود أو تقاعس أو خمول، وقد أوضح ذلك سمو الأمير خالد الفيصل بقوله: «إن المشكلة ليست في المجتمع ولا في الحركتين الثقافية والاقتصادية، إنما المشكلة في الترشيح». وهذا هو مربط الفرس، الترشيح سيظل مشكلة أولاً، لأن معايير الاختيار ليست واضحة ولا محددة بشكل قاطع، وثانياً، لأن الفوز الأول سيظل مهيمناً بكل جاهه وأبهته على الخصائص النوعية للمشروع الثقافي الذي تطمح إليه اللجنة، مشروع جميل، وهادف، وحضاري، لكنه يبقى مشروعاً خارج المنافسة.
جدة
lamiabaeshen@gmail.com