بين يديّ «جمرُ من مرّوا»، المجموعة الشعرية الجديدة الآسرة، للشاعر المبدع محمد إبراهيم يعقوب، أو جنوب قلوب الطيبين كما يصف نفسه، ومن يشربها، نعم يشربها كماء على عطشٍ، أو كقهوة مستطابة، سيكتشف دون مشقة أن شعره طيب كقلبه، ومحمد من الشعراء المختلفين هنا، الشعراء الذين يستطيعون إحالة القصيدة العمودية إلى مَعين، فهو يبنيها بالحب والغمام فنراها فارهة محلقة، أو نشعر بها تنساب زلالاً بين أيدينا، لكنها لا تفرّ، بل تبقى تخاتلنا، وهو حتماً لا يبنيها بالخرسانة المسلحة كما يفعل بعضهم فنرتطم بها ارتطاماً، وتصدمنا بعنف.
تأخذنا رحلة الشعر المائية هذه بين «مخاتلة الغيم»، و»تفاصيل لضفاف ممكنة»، و»سريرة المرايا» كما قسم مجموعته الصادرة عن دار الانتشار العربي، وهنا نبع منها من «أعراس المواقيت»:
أفقنا على سكرةٍ مرتيْن
وسرنا لأرواحنا خطوتيْن
ولم ننتبذ إثمنا مرةً
صعدنا إلى إثمنا مرتيْن
طرقنا المنايا ولم ننتبه
فإذْ بالمرايا ترى خيبتيْن
أناشيدنا ما تبقى لنا
من الحب والخبز والبين بيْن
مددنا يداً للكلام العصيّ
فلمّا تعبنا مددنا اليديْن
ألم أقل لكم إنه الماء، وهذا من فيضه من «حروف الماء»:
بوحٌ هنا.. لم يتسعْ لشقائي
قد لوحوا لكن لغير سمائي
لم يتركوا للقلب بعض فجيعةٍ
حتى يعيد كتابة الأشياءِ
مرّوا كفاتحة الكتاب أعيذهم
من آيتين.. تلفّتي وغنائي
أوراقي البيضاء.. لا معنى لها
وسرير ذاكرتي حروف الماءِ
ولا يكتفي يعقوب بسلاسة التناظر، لكنه يبحرمع شعر التفعيلة في عدد من قصائد المجموعة، منها « كلام الوردة»، «أعالي الغياب» و»مسغبةُ الروح»، وهي عناوين موحية تشي بما تكتنز بها المضامين:
ما لم يُمسّ
من اكتنازٍ فيكِ
يكمنُ في زوايا الروحِ
أعرفُ كمْ تعبتِ على اكتنازه!
الشعر هنا هو الروح، وهو القلب، وهو الغيم في سموه ومطره، بينه وبين الوطن تلاحم، وبينه وبين الأسئلة والكشف قلق البياض والحبر.
هكذا تأتي قصائد محمد يعقوب محملة بالمعرفة، مكللة بحزن نبيل، وبوح جميل، وغناء عذب:
عدا أنهم في الروح صلوا وأخبتوا
نأوا مثلما جاؤوا وكالريح أفلتوا
وكالليل لا يقضي حوائجَ أهله
أضاءوا الحنايا ثمّ كالليل أنصتوا
ولعل تلويحتي هنا تكون لسماء محمد البهيّ بشعره وخلقه، ولسماء غيره من محبي الشعر، وأن تصل إليه غيمة ممطرة كما أمطر الوقت والذائقة بشعر قريب من القلب، حبيب كصاحبه.
الرياض
mjharbi@hotmail.com