ظللت انتظر رواية هذا الشاب بشغفٍ..
طاهر الزهراني أصدر أربع روايات، وظل نتاجه بعيداً عن متناول اليد للمثقف، فكيف بالقارئ العادي، فتلك إشكالية يقع فيها كثير من الكتاب، حينما يغيب دور المؤسسة الثقافية، وينحصر دورها في تسويق الجانب السلعي من الفن، حرضني على قراءة نتاج طاهر مشكوراً في رحلة لليمن د. أبو بكر باقادر وكيل وزارة الثقافة للعلاقات الخارجية، وألمح إلى شفافية وردت عن جزئية الإرهاب في رواية (جانجي) رواية طاهر الثالثة صادرة عن دار رياض الريس..
رواية (نحو الجنوب) تقع في 110 صفحة من القطع المتوسط عن دار طوى، تبدو رواية سيرية للفتى (زهران) بطل الرواية والراوي بضمير المتكلم، ويمكن أن تقرأ بذات البساطة، تشير إلى حالة فردية في مرحلة المراهقة، تتمحور حولها الأحداث وشخوص الرواية، فتبدو في تقريرها ومباشرتها وكأنها ريبورتاج عن القبيلة لصحفي مبتدئ، وقد تعد قصة طويلة تتحدث عن تجربة فتى؛ فالبطل ينتزع في ليلة (شغب) بين مشجعين كرة القدم في جدة، ويسحب من بيت أهله بالقوة ويودع السجن، ونظرات حبيبة ترمقه من نافذتها، ويعلن أن بداخلة منادياً يقول له من البداية : (اكتب يا كلب وانبح بقبح !!) ليبحث عن ذاته، فتصبح حكاية تحدث فلا تشكل ذات قيمة، وتتطور إذ ينزع أبوه ملفه الأخضر من مدرسته أول ثانوي، مما يعني انتزاع زهران من قلب جده، ونظر حبيبته وعلاقة تتشكلُ بشكلٍ مدهش وغير متوقع، وأصبحت هي عالماً آخر، بل عوالم أخرى..
الكاتب يجترح في رواية (الهجرة المعاكسة) نحو الجنوب تحديداً، خطاً مغايراً لموسم الهجرة إلى الشمال، فالمدن تبتلع كثيراً من أبناء الجنوب، وستكون روايته في هذا الاتجاه، إذ يغادر الفتى زهران بأمر مدبر حي (النزلة) بغير إرادته، قصر الملك سعود المهجور. البرج. خزام، المكتبة العامة. مبنى التلفزيون. الاستخبارات. مقبرة شاهر، معالم صارت مألوفة له، لتتفجر في رأسه الأسئلة في طريق الساحل الغربي المؤدي إلى الجنوب، طريق كل شبر فيه نابٌ سامٌّ يتقرب، طريق نعش أسود .. دماء دافئة على الإسفلت، مخ متناثرة، فروة شعر مدعوسة، الطريق إلى وادٍ في تهامة أغبر ملعون..
جارحٌ هو عالم زهران الجديد، وثلاثة هم حراس منفاه في هذا الفضاء، جدٌّ في السبعين ماتت زوجته، وأحمد أخ من أم أخرى لم يرها من قبل، ماتت أمه وكان ما زال رضيعاً في المهد، ومروان (الكلب) الذي ينبح في بيت حجري، أصبح كغرفة السجن له وهم عالمه الجديد، ليتعلم منهم مبادئ وقيم قبلية، يفتخر بها ويتمرد عليها، يتقن مفردات ليله ونهاره، يتلقى من كل واحد حرفة محددة كالصيد في زمن محدد، ولاحظ دلالة (مروان!!) الاسم الذي سيعلمه النباح ورعي الغنم، وهنا كانت المواجهة في هذا الفضاء بين عالمين الشيء ونقيضه:
(وحدي هنا أقارع الهواء في هذا الوادي اللعين، حصون خالية وبلاد مندثرة من كل حياة
أيها الشنفري قعسوس كانت بجوارك وأنت تقارع القبيلة، وحبيبتي أنا بعيدة، وليس لدي ما أقارعه غير السدور وأشجار السلم.
أنت كنت تمارس الصعلكة برفقة أناس لعنوا القبيلة وخرجوا عليها، وامتهنوا الصعلكة وزرعوا الأرض أشعاراً وحكايات، وملأوا بطون الجياع من أموال أهل الجشع.
أما أنا فلم أزرع هذه الأرض إلا سباباً وبصاقاً، وحيد هنا بلا سيف ولا فرس، أطعم كلبا أجرب، وأنفذ تعاليم جدي العقيمة!
أيها الشنفري أنت كنت تتسلى بقصائدك، أما أنا فلا وزن لي ولا قافية..) ص 43
حينما يصبح الفعل مقيداً، وكبسولة الزمن محبوسة في قبضة الريح، وتصبح أحاديث ليل العروس، وشقاوة وأخبار حارات جدة، ثرثرة فيها كثير من فحش المتعة واللغة، تتحدث عن مصائر كثيرة تتغير بسرعة، يهدر بها مسجل عليه كسوة خضراء، ودناديش مزينة بحبات خرز طرزتها عجوز ماتت، وتركت زوجها الطاعن في الأيام يحرسها، فتروي الحكاية عبر رسالة أشرطة كاسيت، تبعث بذاكرة أحد فرسان حارة النزلة : (أعرف أنو نكدت عليك وشكلك كذا مغبر وريحتك غنم بس هذا كله عشان بكره النهار ما تقول بلسانك الوسخ :
- التكروني حموده خبى عليا وما كلمني..
أبو زهرة رد عليا تمام... سلام
زهران في شيء كمان يهمك، البنت اللي تحبها سافرت عشان تكمل دراستها.. سلامو!) ص 54،
تسكن غربة وحرقة قلب عاشق في وادٍ سحيق، وتخرج بجملة من التأويلات باحثة عن المصائر، إذا سلمت بأن الرواية فن مدني من البداية، تكتب بعد نضج معرفي، وتخوض في تجارب حياتية متنوعة، وتستدعي الذاكرة التجارب الروائية - رواية تشالز (أولفر توست) الفتى الطقوسي الذي شكله الاجتماعي الديني السياسي، وتحضر في البال أيضاً رواية للروائي الكبير بهاء طاهر ( خالتي صفية والدير)، إذ تشع في تأويل الحدث الطقوسي ذاته، حينما تفرض الطقوس الطبقية ذاتها الحلول بين شرائح المجتمع، فيأتي دروس الجد في أولى تعاليمه في وادي، يقربُ إلى الموت أكثر مما يضيء من الحياة، بأن من العار أن تترك سلاحك خلفك، لابد أن تحمله في كل مكان، لأن ضياع السلاح عار لا يمحى أبداً!
لغته الموت وطقوسه، تسابق النسور إلى بطن وادٍ كل شيء فيه يوحي بالزوال والعدم والموت، فالجد يموت في غياب أبنائه، وقد خلّف ملكاً عظيماً لهم، بيتاً حجرياً، وماعزاً وقطيعاً من الغنم، ودجاجات والديك حميران، وخلايا نحل، والغليون، فيعود الغائبون الأب والخال من مدينة جدة، ليتقاتلوا بالسلاح الأبيض والمسدسات على الأرض، وتصبح أساطير العشاق أهزوجة حسناء، داهم السرطان الخبيث صدرها، تروي انكسارات وسيرة الراحلين في الوادي، وينبح مروان الكلب بلا أدلجة، ينظر من فوق إلينا ونحن ندفن صاحبه، يدور على نفسه ويصدر من جوفه أنيناً مؤلماً، وكأن هذا الكائن وحده سيتذوق بدوره تالياً مرارة الفقد، وليظل مع المغني الأعمى رزق الله، يتذوق لحن قيم وتعاليم القبيلة وحرمان الزواج، و(النزلة) يعاشرها الليل بهدوء، أعمدتها منتصبة، ولا تهتم بالنجوم الصغيرة التائهة، ترضع مسابح الأثرياء وترش حدائقهم وتبخل بقطرات على البراميل الزرقاء المركونة في حمامات الفقراء. وكانت نافذتها مضاءة..!
ويبقى السؤال هل نجح الكاتب في روايته؟، الكاتب لم يسمح لنا أن نتمدد في الأزمنة التراكمية، وحاصرنا فقر المكان، ومحدودية العودة ومعرفة شخوصه من الداخل، وصراعهم مع متغيرات الحياة وعواصفها، وأتذكر رواية الشيخ والبحر لهمنغواي، ومحدودية معطيات الطبيعة فيها وقسوتها كانت للذين يجهلون ولا يعرفون مثلي أسرار البحر منولوجاً للروح وتعويضاً داخلياً يواجه به عنت فضاء الكتابة في الرواية، وعواصف البحر وخطر أسماك القرش، ونعم طالما اجترح فضاءها وعالم الرواية، فالرواية معبأة بالأسئلة الباحثة، ويحمد له الكشف ومواجهة الدربة.
وجراءة طاهر تبدت في مواجهة عالمين، وكثير من المقارنات بينهما في لغة متمردة فضائحية، عالم غامض وفقير وساكن تقيده تعاليم القبيلة وقيمها، ومرئي وغني ومتعدد ومتغير ومتحرر.
الرياض