يروي لنا والدي (حكاية) طريفة يفوح منها عبق الماضي وتنكشف فيها روح البراءة وجمال البساطة اللتان كانتا في ذلك العهد القديم. يقول والدي - حفظه الله - بعد أن بيَّن لنا الحالة الصعبة التي كانوا يعيشونها: في أحد أيام الحر القائظة وفي (عز الظهيرة) أخبرتنا والدتي - رحمها الله - أن نجتمع تحت إحدى نخلات (المزرعة) لنستظل بها من شمس الصيف الحارقة بعد صباح شاق طويل من العمل واللعب معاً. وحين أخذ كل واحد منا مكانه، أخرجت لنا والدتي (بطيخة) كبيرة لعلها تُروي عطشنا وتخفف من حرارة هذا الصيف اللاهب، ومنذ أن بدأت بإدخال السكين في وسطها للبدء في تقطيعها وعيوننا مُسمَّرةٌ بهذه البطيخة التي لم نكن نرى مثلها إلا الزمان بعد الزمان، وحين شطرت والدتي (البطيخة) إلى نصفين إذا بمنظر مريع ينكشف أمام أعيننا، فقد خرجت من وسطها مجموعة من (الديدان) و(السراوة) التي كانت تنعم بعيش رغيد في ذلك المكان الجميل! يقول والدي: فخاب أملنا وتفرقنا متحسرين، وما زال مشهد تلك (البطيخة) الحمراء في أذهاننا، أما والدتي - رحمها الله - فقد كانت تضرب كفاً بكف نادمةً مُتحسِّرةً على ضياع تلك البطيخة الثمينة وهي تقول: (يا ألله! كيف لم أُقطِّعهَا لكم في الليل؟).
ولأنَّ ذهني مشغولٌ دائماً ب(المناهج النقدية) وما لها وما عليها، فقد تبادرت إلى ذهني كثير من هذه المناهج حين كنت أصغي إلى هذه الحكاية، وفطنتُ إلى كثير من (مبادئها) و(أفكارها) التي كانت تلزمها (النقاد) حين بغية (مقاربة) (النص الأدبي) و(قراءته)؛ ولذلك فقد كنتُ أشبه جدتي - رحمها الله - في هذه الحكاية ب(المنهج النقدي)، أما والدي وإخوته فقد كانوا هم أولئك (النقاد) الذين اتخذوا ذلك المنهج لهم طريقة مثلى في (القراءة). أما (البطيخة) فهي ذلك (النص الأدبي) الذي سيكون موضع التطبيق ل(إستراتيجيات) النقاد و(أفكارهم) و(مبادئهم).
ومن أبرز هذه (الأفكار) و(الإستراتيجيات) التي تتصل بموضوعنا هذا فكرة Presence and Absence (الحضور والغياب) التي آمنت بها هذه المناهج وتعاملت معها بشكل غريب وعجيب، معتقدة أن هذا التعامل هو الطريقة المثلى في مقاربة (الخطاب الإبداعي)، وأنه المسلك الصحيح الذي يتوصل من خلاله إلى (الدلالة) المرادة و(المعنى) المقصود من (النص)، زاعمين أن هذه (الإستراتيجية) خير معين للقارئ في فهم (النص) و(إنتاجه) و(إعادة كتابته).
لقد ارتبطت هذه (الفكرة) -ككثير من الأفكار النقدية- بموجة (الشك) العارمة و(انعدام اليقينية) التي اجتاحت الغرب في تلك الفترة التي نشأت فيها هذه المناهج. وبالمناسبة، فإن استحضار موجة (الشك) هذه تُفسِّر كثيراً من (المبادئ) و(الأفكار) و(الإستراتيجيات) التي تطبقها هذه المناهج حين بغية (مقاربة) (الخطاب النصي)، وفكرة (الحضور والغياب) هي إحدى تلك الأفكار التي ظهرت لدى (نقد الحداثة)، وبرزت بشكل كبير بل وصلت حد (التطرف) عند نقد (ما بعد الحداثة) كما سيتبين لنا بعد قليل، وكيف ارتبط كل ذلك ب(الشك) و(التشكيك) و(انعدام اليقينية) و(إلغاء المركزية الثاتبة) للأشياء.
فمنذ أن شاع (الشك) في فترة ظهور تلك المناهج لم تعد تؤمن ب(المعنى) ولا تثق ب(المضمون)، وإنما كان إيمانها وثقتها منصبين على (الشكل اللغوي) فحسب؛ لأنه هو الذي يمثل (الحضور)، أما (الدلالة) فهي (غائبة) ولا يمكن الوثوق بها، ولذلك فقد رأينا كيف عظَّمت المناهج (الشكلية) من شأن (النص) وعوَّلت عليه كامل التعويل في (إنتاج الدلالة)، وأغفلت كل شيء دون ذلك حتى لو كان مساعداً في تفسير (المعنى) وإضاءة بعض جوانبه، لأن هذه المساعدة وتلك الإضاءة غير موثوق بها على أية حال.
لقد كانت فكرة (الحضور والغياب) عند (البنيوية) رائدة المناهج الشكلية، تعتمد على الإيمان بأن (العلاقة) بين (الدال) و(المدلول) في (النظام اللغوي) هي في حقيقة الأمر علاقة (جزافية) و(اعتباطية)، ونتاج (عرف لغوي) وتواضع (تاريخي ثقافي)، وليس لتلك العلاقة أية قاعدة ثابتة أو علة واضحة. ومن الأدلة على ذلك كما يرى (البنيويون) هو اختلاف (الدال/الصوت/اللفظ) بين اللغات المختلفة، ولو كان الأمر غير ذلك لتحدث الناس جميعاً لغة واحدة، ومن ثم فإن الإيمان ب(حضور المدلول) مباشرة عبث لا فائدة منه في نظر هذه المناهج!
وهنا نشير إلى أن مهمة (الناقد البنيوي) حين (مقاربة) (الخطاب الإبداعي) هي محاولة (استحضار/تفسير) هذا (الغائب/المدلول) من (الحاضر/الدال)، على أنَّ هذا التفسير الذي يقوم به الناقد (مغلق) و(نهائي)؛ لأنَّ (النص) صار كذلك بمجرد الانتهاء من إنشائه، بيد أن هذا الانتهاء والإغلاق لا يعني بطبيعة الحال أنَّ (النص) لا يحمل غير معنى واحد، بل إنه (ينغلق) على نفسه ويصبح (مستقلاً) عن غيره ولا يُحال إلا إلى نفسه، مع ملاحظة أن هذا (الإغلاق) (متعدد الدلالات) يُمكن أن يحمل (تفاسير متعددة)، ف(النص) ليس (أحاديَّ المعنى)، بل تفيض منه كثير من (التفسيرات) و(التأويلات)، غير أنَّ (النص) هو (المركزية الثابتة)، و(المتحكم الرئيس) في هذه (التأويلات).
وإذا كانت (البنيوية) تتعامل مع فكرة (الحضور والغياب) بهذا الشكل، فإنَّ مناهج (ما بعد الحداثة) قد (تطرَّفت) في التعامل مع هذه (الفكرة)، وهي تلك المناهج التي عظَّمت من شأن (القراءة) و(القارئ)، ونقلت (السلطة الأدبية) إليهما، وتمثلها (التفكيكية) و(نظرية التلقي/القراءة) اللتان تلتقيان عند كثير من النقاط المشتركة تحدثت عنها في كثير من المقالات السابقة، وتعاملها مع فكرة (الحضور والغياب) هي إحدى تلك النقاط.
إنَّ مراهنة هذه المناهج تتجه صوب (الغياب) انطلاقاً من كون (المعنى) الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي (غير مستقر) و(غير محدد)، ولذلك أسباب عديدة منها: انحدار (النزعة الإنسانية) وتلاشيها في أُطر التحليل المعاصر (الفلسفي) و(النقدي)، وتعدُّد (التحولات المعرفية) القاضية بنشوء المذاهب والتيارات الجديدة المحمَّلة بالفكر و(المعطى الثوري)، فضلاً عن إثارة بعض النزاعات (المعرفية) و(الثقافية) القاضية بطرح (تظاهرات) (فكرية)، و(معانٍ) مُختلفة، تقود إلى (التحوُّل) و(التناحر) بين (النصوص).
وقد ارتبطت فكرة (الحضور والغياب) عند التفكيكيين تحديداً، وخصوصاً لدى Jacques Derrida (جاك دريدا) بثنائية أخرى هي ثنائية (الاختلاف) و(التأجيل)، حيث يرفض (دريدا) أن تكون هناك (سلطة ثابتة) أو (مركزية مستقرة) تعطي الكلمات (دلالاتها)، وتُحدِّد للأفكار (معانيها) وتؤسس للأنساق (مصداقيتها)؛ لأنَّ (حضور) ذلك (المركز المحوري) داخل (النص)، ووجود تلك (السلطة الثابتة) أو (الخارجية) داخل (اللغة) يرتبط دائماً ب(الغياب). وبسبب ذلك كان من الطبيعي أن يقوم (دريدا) بنقض فكرة (التمركز المنطقي) أو (الارتكاز على المدلول) ويدعو في مقابل ذلك إلى (علم النحوية) كأساس ل(علم الكتابة).
إنَّ (المعنى) في نظر هذه المناهج مرتبط دائماً ب(الغياب)، و(الدلالة) في حالة (التباس) مستمر. وإذا كانت وظيفة (الناقد) عند (البنيويين) هي (استحضار) ذلك (الغائب) من هذا (الحاضر) وهو قادرٌ على ذلك، فإنَّ مناهج (ما بعد الحداثة) ترى أن هذا (الاستحضار) مُهمَّةٌ (مُستحيلة)، ووظيفة من العبث إضاعة الوقت في مُحاولة تحقيقها، لأنَّ (العلاقة) بين (الدال) و(المدلول) (مشكوكٌ) فيها و(غير يقينية)، و(المعنى) في حالة (غيابٍ) أبدي، ومهما حاول (الناقد) أو (القارئ) (استحضار) هذه (المعاني) وإيجادها فلن يستطيع، وكل ذلك راجع إلى الإيمان التام ب(غياب) (المركزية الثابتة) للنص، وهذا شيء طبيعي إذا عرفنا أن هذه المناهج قامت في الأصل على (إلغاء) (مركزية) الأشياء.
لقد آمنت هذه المناهج بكثير من (المبادئ) و(الأفكار) التي كان مرجعها إلى (الشك) الدائم و(انتفاء) (المركزية) الثابتة، حتى وصل ذلك إلى (النظام اللغوي) و(الشك) في (العلاقة) بين طرفيه: (الدال) و(المدلول)، فظهر (الإرجاء) و(التأجيل)، وبرز (التشتت) و(الانتشار)، وجاء فكرة (الحضور والغياب) تتويجاً نقدياً للمعطيات السابقة، لأنها تُمثل في نظر كل واحد من هذه المناهج (الثمرة المعرفية) للتحليل النصي، والهوية المحدِدة له، وهي الأصل في (الرصيد المعرفي) للطرح النقدي لها، لأنَّ جميع إجراءات (المسيرة النقدية) لهذه المناهج تخضع ل(حضور الدوال) و(غياب المدلولات)، فضلاً عن أنَّ معطيات (الاختلاف)، و(نقد التمركز)، و(نظرية اللعب)، و(الكتابة) تبرز فيها بشكل مباشر ثنائية (الحضور والغياب)، ولذلك فقد انطلق (دريدا) من خلال هذه (الثنائية) -إلى جانب المعطيات السابقة- لنقد توجه (الخطاب) الفلسفي الغربي، وتقويض أُسسهِ، وذلك من خلال كشف تناقضاته واللّعب بأنظمته وممارساته، وتحويل معادلته المعرفية من (ميتافيزيقيا الحضور) -حسب مصطلح دريدا- إلى (غياب المعنى) و(اختلافه) و(تعدده).
لقد أرادت هذه المناهج من نقادها أن يتعاملوا مع (النص الأدبي) كما تمنت جدتي من أولادها حين أرادتهم أن يأكلوا (البطيخة الفاسدة) في الليل الدامس حتى لو كان فيها ما فيها؛ تقديراً لقيمتها وحرصاً على عدم فقدانها، وأن يتناولوا قطعها دون التأمل والنظر فيما يأكلون، لكنَّ أولادها على كل حال كانوا أذكى من (نقاد) تلك المناهج حيث رفضوا ذلك حين رأوا ما رأوا، أما أولئك (النقاد) فقد رضوا أن يتعاملوا مع (النص/البطيخة) في وضح النهار، دون أن يعوا حقيقة ما يتعاملون معه!
Omar1401@gmail.com
الرياض