وددت لو كنت باحثاً أنقّب في المراجع، وأستنبئ المواقع، وأغوص في التاريخ الحضرميّ، أزيل عن بعضه الغبار وأجلوه للنّظّار، أبيّن ما غمض من وقائعه، وما سُكت عن حوادثه، فقد تعرّض تاريخ الحضارم للتجاهل، ولولا نتفٌ من بعض المتحمّسين لأصبح هذا المنهل العذب دارساً، ولما عرفنا أفاضلهم، ولا اطّلعنا على ما أُثر عن فقهائهم وعلمائهم، ولا قرأنا عن فوارسهم وشجعانهم وشعرائهم. على أني أهيب بالمثقّفين الحضارم أن يشمّروا السّواعد لإخراج كنوزهم من مظانّها وإبرازها ليتسنّى للدارسين الاطّلاع، ويتمكن الباحثون من الانتفاع. أطمع وأطمح وأتطلّع أن يعمد القادرون من إخواننا الحضارم فيعملوا على إنشاء مركز للدراسات والبحوث يُجمع فيه كل ما يختص بالحضارم من تاريخ وثقافة وعلم اجتماع وسياسة واقتصاد وأدب وقصة وشعر، وتبويب ذلك وفهرسته، ليُتاح للباحثين تطبيقُ مجالات دراساتهم فيه، وتشجيع طلاب الدراسات العليا لتقديم طروحاتهم العلمية عن الحضارم.
كثير من المثقّفين العرب لم يقرأوا عن ملوك كندة: معدي كرب الكندي، قيس بن معدي كرب السلسكي، حجر بن عمرو آكل المرار، عمرو بن حجر، الحارث بن عمرو، حجر بن الحارث بن عمرو والد الشاعر امرئ القيس... إلخ. كم من المثقّفين اطّلع على قصيدة كُليب بن سعد البرهوتي الذي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال مادحاً:
من وشز برهوت تهوي بي عذافرة
إليك يا خير من يحفى وينتعلُ
تجوب بي صفصفاً غبراً مناهله
تزداد سيراً إذا ما كلّت الإبلُ
شهرين أعملها نصاً على وجلٍ
أرجو بذاك ثواب الله يا رجلُ
أنت النّبيُّ الذي كنّا نخبّره
وبشّرتنا بك التوراة والرسلُ
فمسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة على وجهه فأصبح ذاك من مفاخره ومفاخر أبنائه من بعده.
كثير منا يردّدون طرائف عن حرص الحضارم على القرش مما يدخلهم في دائرة البخل، ولكنّ المقنّع الكندي دحض هذه المقولة:
إني أحرِّض أهل البخل كلّهمُ
لو كان ينفع أهل البخل تحريضي
ما قلّ ماليَ إلا زادني كرماً
حتى يكون برزق الله تعويضي
علم الله أني عندما زرت حضرموت واجهتُ فضلاً يُذكر فيُشكر، ولقيتُ طيباً وكرماً، ولقد دفعني كرم ضيافتهم، وطيب عنصرهم إلى البحث في مآثرهم الكثيرة وفضائلهم الجمّة، ولعلّي ألمّ بحسن التقبّل فيهم، وجميل الرضا والقبول، شاهدُه شخصيّة حضرميّة، هي امرؤ القيس بن عابس الكندي الذي ينتهي نسبه إلى الملك ابن الملوك معاوية الأكرمين. وُلد امرؤ القيس بن عابس في مدينة تريم قبيل البعثة النبويّة، وعندما صدع النبيّ صلى الله عليه وسلم برسالته وبلغت الرسالة المحمديّة أجواء حضرموت أسلم امرؤ القيس، وارتضتْ نفسه المؤمنة الإسلام ديناً، فتخلّق بأخلاق الإسلام واتّبع نهجه، حتى أنه عندما تنازع مع رجل من قومه لم يرتض أن يسلّ سيفاً أو يرفع رمحاً، بل تخيّر أن يكون الحكم بينه وبين خصمه رسول الهدى والدين محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والتسليم، أولاً للقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والفوز بصحبته، وثانياً ليكون الحكم بينه وبين خصمه، فشخصا إلى المدينة وعرضا القضيّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطالبه بالبيّنة أو قبول اليمين، فقبل يمين خصمه، قنع برؤية رسول الله والفوز بصحبته صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى بلده وعشيرته، وعندما اختار المولى عزّ وجلّ رسوله إلى جواره وقام بالأمر خليفته الراشد أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه ارتدّت قبائل حضرموت، إلا أنّ امرأ القيس ثبت على إيمانه وحارب المرتدّين من قومه تحت لواء والي حضرموت زياد بن لبيد الخزرجيّ الأنصاريّ، فترسّخت عُرَى الإسلام في حضرموت ومنها إلى أصقاع بعيدة في جاوا وماليزيا وغيرهما.
امرؤ القيس بن عابس شاعر متقدّم في شعره، له بيت من الشعر طارت به الركبان ويعتبر من أصدق ما قيل في الشعر، وهو:
الله أنجح ما طلبتَ به
والبرُّ خير حقيبة الرّحل
وهي من قصيدة يقول فيها:
حثّي الحمول بجانب العزل
إذ لا يوافق شكلها شكلي
إني بحبلك واصلٌ حبلي
وبريش نبلك رائش نبلي
وشمائلي ما قد علمت وما
نبحت كلابك طارقاً قبلي
إلى أن يقول:
الله أنجح ما طلبتَ به
والبرُّ خير حقيبة الرّحل
ومن رقيق شعره قصيدته:
قف بالدّيار وقوف حابسْ
وتأنّ إنك غيرُ آنسْ
لعبتْ بهنّ العاصفات
الرائحات إلى الرّوامسْ
ماذا عليك من الوقوف
بهامد الطّللين دارسْ
يا رُبّ باكيةٍ عليّ
ومُنشدٍ لي في المجالسْ
أو قائلٍ يا فارساً
ماذا رزأتَ من الفوارسْ
لا تعجبوا أن تسمعوا
هلك امرؤ القيس بنُ عابسْ
سيرةٌ عطرة لشخصيّة حضرميّة فذّة، ومن يتتبّع التاريخ يجدْ لتاريخ الحضارم عبقاً، ولمواقفهم شذىً، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وللحديث بقيّة إن شاء الله
الطائف