ترجمة وتعليق: حمد بن عبد العزيز العيسى،
وكيل كولينز الأدبي كريس كالهون الذي تصادق مع الشاعر في لعبة «بوكر» عام 1981، ينسب معظم نجاح كولينز لمهارته ك«قارئ»: «لا أقصد التنقيص من قوة وتأثير كلماته الشعرية» كما قال كالهون. «لا يوجد شك في قوة كلماته، لكن السمة الأهم هي كونه في الأساس «قارئا» مذهلا للشعر، ومعظم الناس يتجاوبون معه لذلك».
زميله الشاعر إمون غرينان، مؤلف الديوان الحديث «في الحقيقة»، دار غريولف، 2008، قابل كولينز في كلية ليمان عام 1972، وأصبح صديقه حتى الآن، وقدم قراءات عديدة معه. غرينان يقول إنه «معجب بقدرة كولينز الساحرة على التفاعل وجذب الجمهور بطريقة متواضعة ليست غامضة، ولا دوغمائية»، ويضيف «كولينز يملك خليطاً من الوقار والحميمية والمرح مما يجعل قراءته مذهلة وخارقة للعادة».
«صوت بيلي صوت خطابي جاذب للجمهور». كما يقول إريك أنتوناو، منتج تسجيل كولينز «أفضل سيجارة» الذي يحتوي على مجموعة من أجمل قصائده. ويضيف أنتوناو «لغته ليست أهم سبب لجاذبية شعره، ولكن كونه «مؤدياً» شفهياً ماهراً، ولديه أذن خبيرة تحس بكيفية سماع الكلمات أمام الجمهور».
بينما صوته الشعري الجذاب والمؤثر قد يخرج بتلقائية طبيعية، إلا أن مهاراته كقارئ أخذت وقتاً لا بأٍس به لكي تتطور. «لقد كنت - مثل جميع الشعراء - قارئاً عصبياً عندما بدأت قراءة الشعر» كما قال كولينز. «قدمت قراءة في بدروم صغير في نيويورك ذات مساء مع وليام ماثيوز، وسجلوه بالفيديو كعقاب لي للقراءة (يتهكم)، ثم أعطوني نسخة من الشريط لكي أشاهد كم كان إلقائي عصبياً وضعيفاً. لقد كان أمامي ضوء ساخن جداً في البدروم، كما كان ذلك اليوم شديد الحرارة أيضاً. وعندما استلمت الشريط لم أستطع مقاومة تشغيله ورؤيته. لقد بدوت كما لو قد تم إرسالي إلى «جهنم الشعر» إلى الأبد، وكأنني يجب أن أقف أمام ذلك الميكرفون كحطام عصبي متنرفز. وأذكر أن زوجتي مرت خلفي وهي تقول: «لا تبدو أنك كنت مستمتعاً بوقتك جيداً هناك». في تلك اللحظة أدركت أنني إما أن أتقن القراءة، أو أتوقف تماماً»، وهكذا تعلمت أن أقرأ بصورة أفضل.
في حفلاته الشعرية، يمضي كولينز وقتا ًمعتبراً للحديث مع الجمهور: يعمل تقديماً لكل قصيدة، ويشرح كيف نشأت فكرتها. «أنا أعتبر قراءة الشعر مناسبة اجتماعية هامة»، كما قال كولينز، وأضاف: «أن أهم أسٍباب حضور الناس لحفلات الشعر هو رغبتهم أن يسمعوا شخصاً يتحدث إليهم مباشرة بدل أن يسمعوا كلاماً مرتباً بعناية كما لو كان الشاعر مجرد مسجل آلي (فونوغراف) يعمل بالعملة في مطعم، أو كأنه كتاب ناطق». وكما قال الشاعر جوليان بارنز ذات مرة «عندما تقدم قراءة شعرية لا تقرأ بصورة آلية أبداً. الجمهور لا يريد من يطلق عليهم الكلمات مثل الرصاص، بل يود أن يعرف ماذا تناولت في الإفطار!»
القراءات الشعرية أعطت كولينز الفرصة لكي يستمع، ويقيس (يدوزن) تجاوب الجمهور معه. «بالنسبة للأذن الخبيرة، هناك أشياء إضافية عديدة تحصل في جو المسرح أكثر من الضحك أو التصفيق» ، كما يقول كولينز، ويضيف: «لقد أحصيت حوالي 19 نوعا من «صمت» الجمهور تتراوح من ممتاز إلى سيء. ومن المفارقة أن «أجمل رد فعل» وكذلك «أسوأ رد فعل» من الجمهور هو نفسه: «الصمت»!».
يقول كولينز إن «أحد» أهم الإشكاليات التي يجب على الشعراء تجاوزها هو المحتوى «الجاد» للقصيدة الذي يمكن أن ينفر القراء». ويؤكد كولينز أن القصيدة العاطفية الجادة هي في الأساس عن كونك تموت»، «هاأنذا أنظر إلى شجرة، وسأموت»، «تستطيع وضع 80% من الشعر العاطفي الجاد ضمن هذا الموضوع مع تنوعات بسيطة هنا وهناك».
تحد آخر يواجه الشعراء في هذا الزمان هو كيف تقنع القراء أنهم يجب أن يهتموا بالتجربة التي تحتويها قصائدهم. يقول كولينز: «هناك دائماً فجوة ضخمة فاصلة بين: (1) الأهمية الشخصية لوضع عباءة تجربتك الذاتية الجادة على القصيدة، (2) وحقيقة أنه لا أحد يبالي بما تفكر أو تشعر أو تصنع، ما لم تستطع «بإستراتيجية» أدبية ماكرة أن تجبرهم على الاهتمام. يقول كولينز: «واحدة من «الإستراتيجيات» الأدبية الماكرة لحث الناس على الاهتمام بمحتوى القصيدة الجاد والذاتي ، هو أن تخفي وتواري هذه الجدية والذاتية، مؤقتا، من خلال استخدام التواضع الجم الذي قد يصل إلى الانتقاص من النفس، أو المفارقة المدهشة، أو حتى السخافة الغبية ... أو أي أدوات فنية تصنع كوميديا»
استخدام كولينز للمفارقة الماكرة والهزل يعتبران من أهم المواربات التي يستعملها لجعل القارئ مرتاحاً أثناء قراءة المحتوى الجاد، ولكنها طريقة (قد) تؤدي إلى نهاية أكثر جدية. «الرقة في بداية القصيدة تؤدي بالفعل إلى صيد القارئ» كما يقول كولينز.
«القصيدة قد تبدو بريئة ومُرحبة بالقارئ، ولكن هذا الترحاب بالقارئ يهدف إلى إغوائه لدخول القصيدة لأتمكن من قول أشياء (جادة) قد لا تكون محببة ومريحة للقارئ».
هاو تعتبر أن اهتمام كولينز بالقارئ هو عمل يتعدى اللباقة ليصل إلى «حنان عميق»، وتقمص عاطفي للتراجيديا الأصلية للكائن البشري»، «إنه مضحك جداً ولكن (في نفس الوقت) هناك تلك الشفقة العميقة لنفسه ولنا كلنا. إنه يعرف أننا سنموت جميعاً. إنه ليس مغفلاً. القصائد تتجذر بجاذبية حقيقية، إنه يعرف مثلنا جميعاً أنه يوما ما لن يكون هناك بيلي كولينز، ويعرف أن معظم الناس سيقولون: «أووه.. بيلي مات؟!»، يا له من شيء فظيع!» ثم، رغم ذلك، يمضون إلى السوبرماركت! إنه يفهم ذلك جيداً. إنه ذكي، وعيناه مفتوحتان على الآخر».
غرينان يقول: «إنه يحترم فهم كولينز المتجذر لأهمية الصوت، وهو صوت عادي، وبشري، وأمريكي معاصر»، واستعماله لذلك الصوت العادي واللغة البسيطة هو طريقة أخرى توصله إلى الناس بسرعة». إنه يستخدم الخطاب العادي بفاعلية عظيمة، ونحن جميعاً نبحث عن هذا» كما قال غرينان. «ولكن يمكنه أن يكون بهذا الاستعمال للخطاب العادي، ذكياً بدون غموض أو هبوط إلى القاع».
إنه يجذب قراءه ويغمرهم بثقته. هناك نوع من السهولة في الرفقة والتواصل مع قرائه حول ما يعمل مما يجعله مميزاً ومثيراً للإعجاب.
«إنني أحب طريقته التي يصنع فيها «نقطة الانطلاق» (كخشبة القفز المرنة التي أمام البركة) أولاً بحذر شديد، ثم يقوم بأنواع لا تحصى من القفزات المتقنة يليها غوص متمكن إلى الأعماق» كما قال غرينان.
ويضيف غرينان: قصائده تصبح فضاءات يستطيع من خلالها خلق عوالم صغيرة، متماسكة، وفي نفس الوقت مسلية وتنويرية وكاشفة».
ربما بسبب الإعجاب الجارف من البسطاء، هناك من ينتقد أعمال كولينز لكونها متاحة للجميع ومرحة جداً، حتى أنتونوا يعترف أن أٍسلوب كولينز فيه مخاطرة. «هناك نوع معين من الشجاعة عندما تكون مباشراً جداً، واضحاً جداً، ولا تتظاهر كثيراً . هذا يؤدي إلى مجازفة في عالم الأدب»، «هناك مخاطرة عندما تكون عادياً، ومخاطرة أخرى للحديث بلهجة بسيطة وعادية. ولكن بيلي مستعد تماما أن يكون جريئا ومتهوراً ومتقبلاً للمخاطرة، وليس لديه مخاوف من هذا الأمر».
«الطرفة» هي أداة شعرية مهمة في أعمال كولينز... دعوة ترحيبية للقراء. «أعتقد أنه يخترع طرقاً مبتكرة لراحة الناس من خلال الطرفة»، كما يقول أنتونوا، ويضيف: «ولكن لا أعتبره شاعراً مضحكاً. أنا أنظر إليه، في الواقع، كشاعر حزين بصورة خارقة... بل ميلانخولي (سوداوي) جداً»
باركلاي يوافق: «كولينز يفتح الباب عبر الدعابة. أسلوبه وصوته، يجعلانك تشعر بالراحة، ومن ثم يقذفك في فؤادك بطلقة شعرية مضحكة أو جادة... أو كلاهما» ثم يتركك وأنت، ربما، تضحك، ولكنه يهزك ويترك بصماته العميقة عليك بدون أن تحس»!!
كولينز يشرح أسلوبه بطريقة أخرى: «أنا أحاول ركوب دراجة تتأرجح إلى الأمام ثم إلى الخلف وبالعكس بمهارة فوق حبل يفصل بين الكوميديا والتراجيديا».
في صيف 2007، قرأ كولينز بعض قصائده ضمن برنامج قراءة الشعر الصيفي في متنزه «ماديسون سكوير» الشهير في قلب مانهاتن، نيويورك. كانت الساعة حوالي السادسة مساءً في يوم أربعاء في أوج حر ورطوبة شهر يوليو. كانت منصة القراءة موضوعة وسط تقاطع ممرات المشاة في المتنزه»، «مئات الناس كانوا يمرون عبر ذلك التقاطع في طريقهم إلى منازلهم بعد العمل... أناس لم يقصدوا حضور برنامج القراءات الشعرية هذا، الذي لم يكن مضيافاً مطلقا للمارين»، كما يتذكر إبرشوف، ويضف: «خلال القراءة التي استمرت 40 دقيقة، زاد عدد المستمعين لكولينز... زاد ثم زاد. أكثر من 100 شخص من العابرين، وفي الغالب لم يكونوا ينوون سماع الشعر تلك الليلة، توقفوا وأنصتوا!»
«هناك سحر في نبرات كولينز» بحسب الشاعرة ميري هاو التي تضيف: «إنها نبرات شخص يملك كل الوقت الذي في العالم ليعيش ما يسميه «الكسل السعيد»، حيث يستطيع بالفعل أن يسمح لأجنحة الشعر أن تحمله إلى حيث يريده «قلبه، وعقله، وروحه، ووجدانه»، وهي رحلة ماتعة وباذخة، والناس يتشوقون للذهاب معه فيها لأنه رفيق عظيم ومذهل».
كاتب ومترجم سعودي
hamad.alissa@gmail.com
المغرب