في كتابه «عروبة اليوم» يحاول السبيل أن يقدِّم مجالاً تداولياً للعقل المعرفي يعتمد على القيمة الاستثمارية التي تحول المجال التداولي للمحليات العربية إلى مشروع ثقافي عروبي ثم تحويل ذلك المشروع إلى مجال تداولي عالمي، وهو بذلك ينقض فكرتين سائدتين؛ الفكرة الأولى التشكيك فيما نتوهم أنه ثبات المكوّن، والفكرة الثانية التشكيك في الكفاية الذاتية لثبوتية ذلك المكون.
والقيمة الاستثمارية للمجال التداولي لا تعتمد في بنيويتها على التحوّل إلى التشيؤ لكنها تنتج مفاهيم وفق ارتباطها المتطور بالقصدية تحمل خصائص التشيؤ أي الحدود والصفات والمظاهر، فيصبح كل شيء له حد وصفة ومظهر مرتبط بالفهم والقصدية، أي عبارة عن مجموعة علاقات اقتضائية تتم عبر مخصصات إشارية مكونة تحقيل دلالي، وهذا يعني بدوره أن التشيؤ افتراض وظيفي حامل لقيم شمولية فكل من يمثل علاقة يمثل وظيفة.
والتشيؤ يرفع سقف المخصصات الإشارية للمعاني «التحقيل الدلالي» ويحررها من مضموناتها الدلالية.
والفرق بين التحقيل الدلالي والمضمون الدلالي، أن التحقيل الدلالي مؤقت ومرتبط بعلاقة اقتضائية، ولا يُنتج هوية أو تاريخا، في حين أن المضمون الدلالي يمنح هوية وتاريخا وهما أي الهوية والتاريخ يتحكمان فيما بعد بنوعية العلاقة الاقتضائية، ولو قسنا الفرق بينهما سنجد إن المعنى كلما كان حاملا لمضمون دلالي قلت إمكانات علاقاته الاقتضائية وضاق تحقيله الدلالي.
وبذلك يصبح المجال التداولي في ضوء القيمة الاستثمارية هو مجموع من التحقيلات الدلالية التي تمنحه الصيرورة ولا تهدد هوية بنيته.
وفي ضوء القيمة الاستثمارية للمجال التداولي عند السبيل يتحول ذلك المجال إلى منتج تسويقي مرتبط بجودة خصائص التشيؤات الثقافية أو خصائص القيمة الاستثمارية والتي هي بدورها كحاصل إنتاج للقيمة الاستثمارية للمجال التداولي مرتبطة بالفهم والقصدية.
يتكون المجال التداولي كقيمة استثمارية عند السبيل وفق ثلاثة مستويات «خصوصية الثوابت» و»الواقع» و»المستقبل» وتلك المستويات هي بدورها التي تكوّن سلطتي المجال التداولي، ثم يحدد السبيل أربعة مواقف للمتلقي من سلطة المؤثر والتي يُركّزها في العولمة، موقف المستِسلم لهيمنتها، وموقف المتقِمص وموقف الرافض، والموقف الأخير الذي تعتمد عليه قيمة الاستثمار ثقافة الموقف المتوازن التي تعتمد على استيعاب «الواقع وقلقه والمستقبل وأخطاره، لتحاول حماية الثوابت الأساسية المتعلقة بالدين والقيم» - عروبة اليوم، 11- وبذلك فالقيمة الاستثمارية للمجال التداولي عند السبيل كمنتجة لأثر تحصل عبر مستويين، مستوى التأمل؛ تبين حدود الأشياء وصفاتها ومظاهرها، والمستوى الثاني المنطق المحض والذي يعتمد بدوره على تراتبية ثنائية أولها توفير المعرفة أي الحقيقة والحكم لتحديد منظومة المعايير وثانيها تحقيق «قواعد الإنتاج» من خلال منظومة معايير المعرفة.
وكلا المستويين يقود المتلقي عبر سلطة المعرفة «إعادة بناء المجال التداولي» و»تأسيس القيم الوجودية» للمكتسب، وهو ما يسميه السبيل «بالمشروع» الذي يجب أن يتصف «بوحدة المشاركة» و»وحدة الصياغة» لمقابلة «الآخر»، وبذلك تتجاوز القيمة الاستثمارية للمجال التداولي تطوير المحليات إلى وحدة قومية لأن «العروبة» كقيمة استثمارية للمجال التداولي هي القادرة على إيصال ذلك المجال إلى العالمية» لأنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يكون ذا حضور ثقافي على مستوى عالمي إذا كان يربط رؤيته الفكرية والدينية بواقع مجتمعه المعاش، دون النظر إلى بقية المجتمعات العربية والإسلامية في أصقاع الأرض» -17- والسبيل هنا يؤكد على تحويل المجال التداولي المحلي إلى مشروع قومي يُنتج حضورا عالميا للخطاب الثقافي العربي، وهذا التحويل لا يتم إلا عبر ممارسة التعالي «التفكير الذاتي» والقصدية «التفكير الجمعي» والتعالي يعني تحول المعطى الحسي إلى معقول، وبذلك فكل معنى وكل قيمة لابد أن تنبع من دلالة ذلك التعالي؛ أي أن المعنى وفق دلالة التعالي هو حاصل فهم مجموع الأفراد، وهذا يعني ضرورة وجود أفق توقع مشترك بين ممارسة التعالي وتنفيذية القصدية من خلال المجال التداولي.
وتتم ممارسة التعالي وفق ثلاثة مستويات هي: الشعور بالفعل، التأمل الفلسفي للشعور الأولي للفعل، وتمثيل الشعور وإنتاجه، وهي مستويات تتحقق عبر ثلاثة أمور في رأي السبيل إعادة تفكيك الحقائق النسبية أو إعادة تفكيك «الفحولة الذاتية» بأن يصنع كل شخص «فحولة ذاتية له دون الآخرين»-32- من خلال «أن رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب»-32- والحوار والتعددية الفكرية وهي أمور تنتج «فتحاً لآفاق الحوار مع الذات أولا عربية وإسلامية قبل التوجه إلى الآخر» -18-
وغياب «الحوار العلمي» أو «الحوار الحقيقي» كما يسميه السبيل هو الذي يهدد عدم تحقيق القيمة الاستثمارية للمجال التداولي وبالتالي إعاقة تحول ذلك المجال إلى مشروع ثقافي عروبي وقومي، لأن غياب الحوار العلمي يمثل «أزمة الواقع الثقافي العربي» ويؤدي إلى الإقصاء وينشأ «صراع ينعكس سلبا على تحرك المجتمع إلى الأمام» -18- ويصبح الفرد العربي يعيش» حالة فقدان توازن لواقعه المعاش، نظرا لتقاطع الآراء والأفكار..» -18-، والحوار الحقيقي كخاصية من خصائص القيمة الاستثمارية يعتمد على الاختلاف الإيجابي في القضايا الفقهية والاجتماعية الذي يقود إلى مزيد من الحوار وتطارح الآراء بعقلانية متزنة»-18- والقصدية على مستوى المُنتج كخاصية من خصائص القيمة الاستثمارية للمجال التداولي المهيأ للتحول إلى مشروع ثقافي عروبي تعتمد على صناعة أفق التصور الثقافي للجماعة المحلية والقومية فهي «قدرة العقل» على التوجه إلى الأشياء وتمثيلها، وتُعتبر من أهم خواص العقل التي تعينه على التفاعل مع الأشياء وإكسابها قيما خاصة عبر آلية التمثيل العقلي التي تتم عبر وسائل عدة منها الاعتقاد والتذكر والقصد والإدراك الحسي والوجدان.
وتحدث القصدية عبر شروط هي: حضور الوعي باعتباره هو ممثل المعقولات، قدرة العقل على امتلاك وظيفة العقلانية التي بموجبها يتم توجيه العقل نحو الأشياء، تحليل الأحداث الواعية وفق ما تمتلكه من إشارات لُتعين خبرة الوظيفة العقلانية، والأحداث الواعية هي مجموعة الخصائص المكونة لهوية الأشياء، وجود كلية موضوعية لصناعة المسار المنطقي؛ من خلال كما يرى السبيل «العلم الشرعي والقدرة على الاستنباط الفقهي، مع توفير مساحة كبيرة من التسامح في احترام الرأي الآخر في ظل التعددية الفقهية الحضارية» -31-وبذلك تصبح نتائج القصدية هي مكونات القيمة الاستثمارية للمشروع الثقافي العروبي للمجال التداولي.
كل قصدية تبدأ بدلالة التعالي، ودلالة التعالي هي التي تدفع العقل للتوجه نحو مؤثر الشعور الخاص وفصله عن مكتسبه السابق لإعادة إنتاجه.
والقصدية كخاصية للقيمة الاستثمارية للمجال التداولي تقوم بوظيفة الثقافة التي «تبني الإنسان..كي يتحول من إنسان مُستقبل إلى إنسان مرسل، وبالتالي فاعل في المجتمع بشكل أكبر» -36- أي تعني «التحول والتغير» -52-
إنتاج أثر جديد لمفهوم قديم
وتنقسم القصدية وفق وظيفتها «التمثيل العقلي» إلى قسمين أولهما: مكتسبات الأشياء السابقة أو المفاهيم السابقة المتعلقة بالأشياء خارج الشعور المحض، تكرر إنتاج المنظومة النسقية: وثانيهما إمكانية الإضافة إلى المفاهيم السابقة، أو إمكانية تجريد الأشياء من مقصدها الأول وإعطائها مكتسباً جديداً عبر عملية التمثيل ومن خلال إقصاء الواقعة، وتوفر المعرفة والخبرة اللتان تُعينان على «الإنتاج والصناعة» ومن تأسيس ماهية جديدة، ثم تشكيل صورة للماهية الجديدة من خلال مفاهيم تجدد حقيقة الوجود، «القصدية».
والقسم الأول يمثله السبيل «بآحادية الرأي» كخلل نسقي ثقافي يمثله تاريخ الشعر والسياسة العربيين الذي اكتسبها المجال التداولي العربي من خصوصية التاريخ القومي وهيمنة الخصوصية الشعرية على الخطاب الثقافي العربي جعل المجتمع «في واقعه وتعامله» -54- شبيها بواقع الشعر وتعامله، والسبيل يجعل المجال التداولي للمجتمع العربي حاصل الخصوصية التاريخية للخطابين السياسي «السيسنة» والشعري «الشعرنة» كما عند الغذامي، على اعتبار أن «القول عند الشاعر يقابله الفعل عند الحاكم» -55- والفعل يتسم «بأحادية الرأي، وأسلوب القمع وإلغاء الآخر.. وتمتد العدوى حتى يصل الأمر إلى مستوى المجتمع بأفراده» -55-وبذلك يصبح هناك تكرار لإنتاج هذا المكتسب وتحوله إلى نظام نسقي يقوم على»أحادية الرأي والسلطة المطلقة،.. ليصل إلى المؤسسات الثقافية التي غدت ذات صوت واحد، وإلى المؤسسات التعليمية التي... تؤصل مبدأ الرأي الواحد والتبعية المطلقة،.. وهذا أدى إلى تعطيل ملكة التفكير التي لم يعد لها مكان في ظل الأحادية في القرار والرأي» -56-.
وبذلك فإن تكرار إنتاج المنظومة النسقية يهدد القيمة الاستثمارية للمجال التداولي كمشروع استباقي ثقافي عروبي.
وفيما يتعلق بالقسم الثاني للقصدية وهو المهتم بالقيمة الاستثمارية للمجال التداولي للعقل المعرفي يخصصه السبيل لمسألة «العالمية»، إن تحول المجال التداولي من المحليات والقومية العربيتين إلى العالمية «تحقيق القيمة الاستثمارية»يتم عبر ترجمة «الممثلات الثقافية» الأدب والفنون، للوصول إلى العالمية، باعتبار أن الترجمة هي «الوسيلة الأقرب للتعرف على عادات وتقاليد وثقافات الشعوب، وبالتالي التلاقح معها للاستفادة منها بالقدر الذي يتواءم مع معطيات الثقافة الأم» -136- أي أن القيمة الاستثمارية لا تتحقق عبر عولمة المجال التداولي العربي إلا من خلال المشروع الثقافي العروبي.
لكن إتمام ذلك المشروع يعترضه بعض المعوقات منها كما يرى السبيل «الواقع السياسي للعالم العربي،.. ومسألة الغالب والمغلوب سياسياً وحضارياً واقتصادياً» -126- وطبيعة خلفية المتلقين الغربيين نحو العرب الذين يبحثون عن الأدب العربي وفي «أذهانهم سحر الشرق الجذاب»، وطبيعة موضوعات الأدب المترجم إلى لغات غربية تعتمد على»الغرائبية والشعوذة والإيمان بالخرافة والدخول إلى عالم من الأدب المكشوف «-126- وهي موضوعات يقبل عليها القارئ العربي الذي يبحث»عما يسليه ويمتعه ويؤصل نظرته التاريخية نحو الشرق» -126- مما يفقد الأدب العربي المترجم تحقيق أي مشروع ثقافي فكري تتحقق معه القيمة الاستثمارية للمجال التداولي العربي.
وعلى مستوى المشروع الترجمي أخفق هو أيضا في تحقيق طموحه كقيمة استثمارية لتحول المجال التداولي القومي إلى العالمي والسبب في رأي السبيل هو أنه عندما يكون «الطموح أكبر من الواقع فتتعثر كثير من المشاريع العربية» -127-.
وفي رأيه كي تتحول الترجمة إلى قيمة استثمارية لتحويل المجال التداولي القومي إلى عالمي يلزم تحقيق أمرين هما: وجود استراتيجية لدعم مشاريع الترجمة والتوزيع والتسويق، وأن «يكون هناك اتجاه لترجمة الأدب العربي ضمن إطار منظومته القومية العامة، بعيداً عن الحدود السياسية»-128- و»تضافر جهود أكبر على المستويات الرسمية والشعبية والهيئات الأكاديمية لتحقيق حضور عالمي» -128-
والقصدية تنفذ عبر استراتيجية التمثيل؛ لأنه دليل على عملية الإنتاج العقلي للمعطى المعرفي، والتمثيل يقوم بوظيفة توضيح موقف العقل من الأشياء وكيفية التوجه إليها» ولذلك يشترط وجود نظام معلوماتي يتحقق من خلال القراءة والاطلاع، لأن ذلك النظام سيكون من»الدوافع الأساسية لزيادة المعرفة، والانعتاق من قوقعة الذات المعزولة ثقافياً، ثم الدخول إلى مستوى أكبر من عالم المعرفة والاطلاع»-132-.
وبذلك تصبح القراءة كممثل للقصدية هي أيضاً من خصائص القيمة الاستثمارية للمجال التداولي، والتي تتراتب مع خاصية أخرى من خصائص القيمة الاستثمارية وهي «الحرية الفكرية» و»تعددية الآراء» وهي خاصية تكون لبناء العقلانية وتنميتها، لأن الوقوف على «آراء مختلفة ورؤى متباينة»14- يؤدي إلى التفكير والمقارنة و»إنشاء جيل يؤمن بالاختلاف والتنوع وبالتالي قبول الحوار ومناقشة ما لدى الآخرين من آراء وأفكار»-149-.
لأن التعود على ممارسة طريقة خاصة للتفكير هي التي تؤسس اعتقاد المرء، وبذلك فالاعتقاد حالة ذهنية تفكيرية تخلق تصوراً خاصاً يجدد معنى المعطى عبر إعادة بناء مفاهيمه ومكتسباته، أو تأليف علاقة خاصة بين الذات المفكرة وبين محتوى ذهني مختص بمحل وموضوع.
وبالتالي فطبيعة الاعتقاد ونوعيته قد تكون من محفزات القيمة الاستثمارية للمجال التداولي أو من معوقاتها، وهو ما يعني أن الاعتقاد قد يصبح»معيارا» لتفعيل القيمة الاستثمارية أو لمنع ظهورها، باعتبار أن القيمة الاستثمارية هي مضمون قضوي لتوحيد المجالات التداولية العربية وإنتاج المشروع الثقافي العروبي والمشاركة في صياغة الخطاب المعرفي العالمي.
جدة