لقد كانت تلك (الرؤية الأحادية) التي اُبتليت بها (المناهج النقدية التقليدية) (المسمار الأخير) الذي دُقَّ في (نعشها)، فقد وُجِّهت لها سهام الانتقاد التي كشفت عن قلة اهتمامها بالنص (من الداخل)، وعدم اكتراثها ب(البنية اللغوية) التي تؤسسه، و(التشكيل الأسلوبي) الذي يُقدَّم من خلاله، والتركيز على (الملابسات الخارجية) المحيطة بنشأته، لذلك كان من الطبيعي أن تقل أعمار هذه المناهج، وأن تتهاوى سريعا؛ لأنها بدأت تنحرف عن (الوظيفة الأصل) التي كان ينبغي أن تقوم بها، وهي نقد (النص الأدبي)، وتقويمه، وتقديم (قراءة جمالية) (مركزة) تلبي احتياجات النقاد والقراء، إضافة إلى أنها لم تستطع أن تساير العصر الجديد الذي سُمِّي (عصر النقد)، حين أضحى كل شيء موضع (شك) و(تشكيك)، وأصبح الإيمان بشيء قطعي ضرباً من المستحيل، وانتفت (اليقينية) واختفت (الحقيقة) الخالصة، فلم يعد هناك ما يسمى بالقول (الموثوق) أو الرأي (الثابت).
ولذلك كان من الطبيعي في ظل ذلك أن تترك هذه المناهج مكانها لغيرها من المناهج الأخرى التي وجدت هذه الظروف فرصةً للظهور والبروز، واستفادت من الأخطاء والعيوب والتقصير الذي لاحظته في المناهج السابقة لتحاول تداركه واجتنابه، فظهرت (المناهج الشكلية) لتعلن بداية عصر جديد للنقد (الحداثي)، فظهرت (الشكلانية) بأنواعها المتعددة، و(الأسلوبية) بصورها الكثيرة، و(البنيوية) بأشكالها المختلفة.
ولأنَّ هذه المناهج قد استوعبت الدرس جيداً فقد أولت جميع اهتمامها (للنص)، وصبت كامل عنايتها على تشكيله (اللغوي) و(الأسلوبي)، ولم تلتفت مجرد التفاتة إلى أية (ملابسات مُحيطة) أو (عوامل خارجية) لا علاقة لها ب(النص الإبداعي)، وإنما فقط التركيز على (النص) ولا شيء غير (النص)، وآمنت إيمانا تاماً أنَّ (القرءاة الجمالية) التي ينتظرها (القارئ )هي تلك القراءة التي تكشف عن (جماليات) (الخطاب الأدبي) من خلال (لغته) و(أسلوبه)، وعبر (صوره البيانية) و(مفرداته الإيحائية)، وبواسطة (تراكيبه الانزياحية) و(طريقة تعبيره) و(كيفية صياغته)، فهذا هو النهج الأمثل في نظر هذه المناهج لمقاربة (النص) والوصول إلى (أسراره) والكشف عن (جمالياته)، وكل انشغال بِما عدا هذه الأمور هو مضيعةٌ للوقت، وإلزامٌ للنفس بما لا يلزم، بل إنَّ الالتفات إلى (الظروف الخارجية) من شأنها أن تقلل الاهتمام ب(النص) الذي كان ينبغي الاهتمام به وحده، وتوفير كل جهد لتحليله وقراءته.
ولتحقيق هذه (الرؤية) في التعامل مع (الخطاب الأدبي) كان لا بد لهذه المناهج أن تقوم ببعض (الاستراتيجيات) التي تعزز من هذه (الرؤية) وتساعد على تطبيقها حين بغية مقاربة (النص الإبداعي)، كان من أبرزها (موت المؤلف) الذي أشرت إليه غير مرة في مواضع سابقة، وهذه (الاستراتيجية) تعني عزل (النص) عن مؤلفه بهدف دراسته دراسةً موضوعية تنطلق من (النص) ومعطياته، وتهمل ما عداها من (ظروف خارجية)؛ كسيرة المؤلف وعصره ونفسيته، وكل ما يُمكن أن يُسمَّى ب(الإطار الخارجي) في دراسة (النص)، ولذلك فقد ظهرت هذه (الاستراتيجية) ك(مصطلح) مع موجة (النقد البنيوي) بفرنسا إبان الثلاثينيات من القرن الماضي على يد Roland Barthes (رولان بارت) في (النقد) وMichel Foucault (ميشيل فوكو) في (الدراسات الإنسانية)، وذلك كردة فعل لتدخل كثير من (العلوم الإنسانية) التي أحاطت ب(المبدع)، ولذلك ارتبط هذا المصطلح ب(البنيوية) التي تكفلت بِحمل لوائه والدفاع عنه، فرفض (البنيويون) (مؤلف النص) واشتغلوا على تَحليل (النص) لغويا وفك (شفراته) و(العلائق) المتكونة منه، وارتكزوا في ذلك على (علوم اللغة) التي أحدثها Ferdinand de Saussure (فردينان دي سوسير) العالم اللغوي السويسري، وأورد فيها جملة من المفاهيم الجديدة أهمها التفريق بين (اللغة) و(الكلام)، واعتبار (الجملة الأدبية) نظاماً من (العلامات) الذي يستند إلى (اللغة)، وعدَّ (الأدب) تابعاً للغة، وتنبأ ب(السيميولوجية) واعتبرها (علم العلامات)، وجعل (علم اللغة) جزءاً منها.
ومع التركيز على (اللغة) وكيفية عملها و(دلالاتها)، ومع تطور (المنهج البنيوي) ودعوته إلى مُحاربة (المذهب الإنساني)، ومع شيوع الطرح (ما بعد البنيوي) لم يعد (المؤلف) يتمتع بالميزات نفسها التي كان يتمتع بها في عصر (هيمنة النص الكلاسيكي)، فلا هو مبدعٌ ولا هو عبقري، وإنما هو مستخدمٌ للغة لم يبتدعها، بل ورثها كما ورثها غيره، وما حِيَل (الأعراف الأدبية) إلا دليلٌ على كيفية وجود (المعنى) وتولده نتيجة أمور خارجة عن (المؤلف) وعن صوته.
وأعتقد أنَّ هذه (الرؤية) -التي آمنت بها هذه المناهج (الشكلية الحداثية) التي تتصدرها شهرةً (البنيوية) في تعاملها مع (النص الأدبي) حين ركزت على (شكله) و(لغته) و(أسلوبه) و(بنائه)- تعود إلى أمرين؛ الأول: كون هذه الرؤية بِمثابة (ردة فعل) للمناهج التقليدية القديمة التي اهتمت ب(النص) من (الخارج) وأهملت (الداخل)، الثاني: (الظروف) و(الملابسات) التي نشأت فيها هذه (المناهج)، فقد كان العصر الذي برزت فيه عصراً متلبساً ب(الشك)، ومتصفاً ب(انعدام اليقينية) و(انتفاء الثقة) و(اختفاء الحقيقة)، وقد ارتبط كل ذلك بفقدان الإنسان للأمن والأمان خصوصاً بعد (الحرب العالمية الثانية) التي انتهت باستخدام (الولايات المتحدة) لقنبلتين ذريتين ألحقتا دمارا شاملا في (هيروشيما) و(نجازاكي)؛ مما أثار الرعب في النفوس من نتائج (التطبيقات التكنولوجية) للاكتشافات العلمية، وانسحب هذا (التصور) على (اللغة) نفسها، وصار (الشكل) هو المعتمد عليه، و(اللغة) و(النص) هما المعوَّل عليهما، أما ما يقوله هذا (الخطاب) وما يطرحه من (مضامين) فليس بذات أهمية، لأنه لا يُمكن الوثوق به.
لقد أدت هذه (الملابسات) إلى (تطرف) هذه المناهج في هذه (الرؤية) حتى وصلت مرحلة (الأحادية)، فصارت لا ترى (النص) إلا من هذا المنظور، ولا يُمكن أن تقبل أي (تدخل خارجي) بِحال من الأحوال، بل إنَّ الأمر قد أخذ أبعاداً أكبر من ذلك، فرفضت كل عامل ليس من داخل (النص)، حتى لو كان هذا العامل يساعد على (قراءته) والوصول إلى فهم أكبر وأعمق له، ولا يَجوز التعويل على شيء سوى (اللغة)، ولا شيء غير (اللغة)، فكل الصيد في جوف (النص)، بل إنَّ بعض غُلاة (الشكليين) قد بلغوا قمة (الأحادية) حين لم يروا في (النص) غير (الشكل)، وعدوا (الأدب) هدفا في حد ذاته، لا يَجوز أن يحمل أية (مضامين) ذات معنى (دلالي) أو مغزى (خلقي).
ولذلك يقول Oscar Wilde (أوسكار وايلد): (إنَّ كل الفنون لا منفعة فيها إطلاقا... إن الفنانين هم صفوة المجتمع التي لا ترى في الأشياء الجميلة إلا معنى الجمال المجرد)، ويقول Theodore (تيودور جوتييه): (إنَّ الأشياء تبدو جميلة بنسبة عكسية للمنفعة) كما يرى Terry Eagleton (تيري إيغلتون) أنَّ الأدب خطابٌ (غير ذرائعي)، وأنَّ (قراءة هذا الأدب/ عمل الناقد) ينبغي أن تكون (غير ذرائعية) كذلك، بمعنى أن يكون التعامل معه و(مقاربته) و(قراءته) بوصفه (أدباً/ نشاطاً جمالياً إبداعيا)، ليس له من غرض سوى حمل (الدهشة) و(الإغراب)، وتقديم الأشياء بشكل (باهر) (غير مألوف)!
وإذا كانت هذه (الرؤية الأحادية) في التعامل مع (النص) هي (الرؤية) التي تنتهجها (البنيوية الأدبية/الشكلية) فإن هذا لم يُرضِ أناساً آخرين من البنيويين؛ لذلك فقد ظهرت (البنيوية التكوينية/التركيبية/الماركسية) التي نشأت في أحضان الفكر (الماركسي) على يدLucien Goldmann (لوسيان جولدمان) الذي حاول تدارك هذه (الأحادية)، ونادى بالربط بين (الداخل) و(الخارج) عن طريق التأكيد على علاقة (البنية اللغوية) بالبنى والأنظمة الأخرى كالنظام الاقتصادي والصراع الطبقي، في مُحاولة لإخراج (النص) من (سجن اللغة).
لقد فشل المشروع (البنيوي) لأسباب كثيرة، كان من أبرزها هذه (الرؤية الأحادية) التي جعلت (النص) عالماً مستقلا بذاته في أقصى صور المبالغة والتطرف، ورفضت كل تدخل أجنبي أو عامل خارجي، ولهذا وبسبب ظروف أخرى وملابسات كان كل شيء مهيأ لظهور مناهج أخرى سُمِّيت بمناهج (ما بعد الحداثة)، قد أدركت هذه (الأحادية) التي وقعت فيها (المناهج الشكلية) وقررت تدارك هذا الأمر، وعزمت على اتخاذ (استراتيجية) جديدة في (مقاربة) (النصوص الأدبية)، فما هي هذه (المناهج)؟ وهل استطاعت هي الأخرى تدارك هذه (الرؤية الأحادية)؟ هذا ما سأحاول بيانه في الجزء القادم بِحول الله وقوته.
Omar1401@gmail.com
الرياض