ينعقد في القاهرة هذه الأيام مؤتمر أدبي كبير تحت عنوان (علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية) يستمر لمدة أربعة أيام من 1 إلى 4 من شهر يونيو 2010، ويشارك فيه أكثر من أربعين باحثاً وباحثة من العالمين العربي والإسلامي.
ونظرة سريعة على برنامج المؤتمر وعناوين الأوراق وتنوع موضوعاتها، تجعل المرء يدرك أن في إهاب هذا الرجل أكثر من موهبة وأكثر من مبدع فهو الروائي والمسرحي والقصصي، والمترجم والشاعر والرائد الذي- بوعي منه أو بسبب حادثة التحدي المشهورة بحور الشعر العربي للترجمة- قادا إلى الاكتشاف المهم والخطوات الأولى التي أسست لمرحلة جديدة من مراحل تطور الشعر العربي وظهور ما عرف الآن بمصطلح شعر التفعيلة ليتولى السياب ورفاقه البدء في التأسيس لهذا التيار الجديد بالشكل الذي نعرفه الآن.
ورغم الاختلاف الآن حول البداية ونسبتها إلى أسماء مثل لويس عوض، بدير السياب، نازك الملائكة إلا أن السياب نفسه يشهد بالبداية لباكثير من ناحية الأسبقية التاريخية حيث يقول: (إذا تحرينا الواقع وجدنا أن علي باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر) مجلة الآداب - يونيو 1954م.
والواقع أن الناس ما زالوا يختلفون حول باكثير فهو شخصية خلافية والشخصيات المهمة هي بالضرورة خلافية دائماً، فهذا لانتاج المتنوع والغزير طيلة التسعة والخمسن عاما التي عاشها باكثير لا بد وأن تجعل الناس يختلفون حوله ويختصمون.
يميل عبدالعزيز الفالح إلى تعليل هذه الكثرة في الإنتاج إلى ما يصفه ب(الإحساس الحاد بالاضطهاد والإهمال.. والشعور الخفي بأوجاع الغربة والحنين والتعرض لإهمال النقاد في مصر.. حيث كان النقد في الخمسينيات والستينيات الميلادية إيديولوجيا يعكس الصراع الحاد بين مد اليسار وجزر اليمين ولما كان باكثير على خلاف مع اليسار ولا يثق باليمين.. كانت النتيجة أن تجاهله التياران).
ويعزو منصور الحازمي خفوت شهرة باكثير في مصر إلى قضيته لمركز والأطراف فيشير إلى (قلة تحمس المصريين له باعتباره غريباً عن المجتمع المصري.. في بيئة تعتبر نفسها القلب النابض والعقل المفكر في العالم العربي مما ولد في نفوس المصريين إحساساً بالتفرد والتفوق) لا أعلم إن كان باكثير قد أحس في نفسه شيئاً من هذا أو أفصح عنه في حديث صحفي عام أو شخصي بين الأصدقاء وعمّا اذا كان فعلاً قد شعر بالتجاهل وبأنه غريب عن البيئة.
أستطيع أن أفهم ما يقوله الفالح عن موقف النقد الإيدولوجي منه ولكني لا أستطيع أن أطمئن إلى أن غزارة الإنتاج تعود للأسباب المذكورة ومنها الحنين والقربة والإحباط.
عندما تخرج باكثير من كلية الآداب في جامعة فؤاد عُيّن مدرساً للغة الإنجليزية في مدارس مصر الثانوية لمدة خمسة عشر عاماً، وعمل في وزارة الإرشاد القومي، وكان عضواً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ومثل مصر ضمن وفود الجمهورية إلى مؤتمرات دولية ونال جائزة الدولة التشجيعية للقصة، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وكان على صلة جيدة بالكثير من أدباء مصر الكبار في تلك الفترة، كما كان يكتب وينشر في الصحف والمجلات المصرية الكثير من مقالاته وإبداعه الأدبي، كما عرفت له بعض المسرحيات فأي غربة وإحساس بالتجاهل يرافق هذا النشاط وهذه المكانة.
في ظني أن غزارة الإنتاج وتنوعه لا علاقة له بالغربة والحنين وإنما تعود إلى الهم الكبير الذي يحمله باكثير منذ صباه مكرساً قلمه وحياته له والمتمثل في قضايا وهموم وواقع الوطن العربي والإسلامي في كل ما كتب من شعر وروايات ومسرحيات ومقالات منذ مرحلة سيئون مروراً بعدن والحجاز إلى أن استقر في مصر، كان الهم العربي والإسلامي هو كل ما يؤرق باكثير يحمله معه أينما حل وهو الذي يشكل الآن الموضوع الأساسي لكل إبداع باكثير، ونتيجة لذلك لم يشعرباكثير يوماً أنه ينتمي إلى بلد عربي دون آخر ولم تكن (حضرميته) تشكل له أية حساسية فقد تجاوز منذ البدء مسألة الإقليمية والقطرية، وكان يحس ويكتب من واقع أنه عربي مسلم وأن كل بلاد العرب هي بلاده.
الرياض