ثمة بون عميق المسافة الفاصلة بين الفلسفة الواقعية والفلسفة الاسمية أي بين الافتراضات التي يجري إجراؤها وعياً على المستوى الإدراكي وبين تلك الحقائق الفعلية العينية التي تشتبك في سياق تفاعلي مع التجربة الإنسانية والاحتكاك بعناصر الواقع ذلك أن الأولى تستعصي على الضبط عطفا على ما تنطوي عليه من صوريةٍ افتراضية محضة ومعلوم أن التسليم ذهنيا لا يقتضي الإمكان ماديا؛ إذ تذهُّن الأشياء لا يستلزم كونها نزيلة عالم الشعور بعكس الأخرى حيث بالمقدور إدراكها وتلمس حيثياتها بواسطة الاستمداد من الحس والشعور والاتصال المباشر عبر التجربة والعقل وبالتالي الوقوف على حقيقة القضية العامة وبآلية تلقائية بعد استقرار جزئياتها في الوجود ف «العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات أدرك العقل منها قدرا مشتركا كليا فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة» (الفتاوى 9-238).
ابن تيمية أحدث انقلابا مذهلا في الفكر الفلسفي عندما انتخب الفلسفة الاسمية في المعرفة وناضل في سبيل دفع الاعتقاد بصوابية الفلسفة الشيئية الملحة على الوجود الواقعي للكليات المجردة، وتعزيز فكرة أن البعد الفطري كوجود بالقوة يقرر أن التموقع الخارجي هو فحسب من نصيب العناصر العينية المتعينة في الحيز المادي والتي لا شركة فيها أصلا كما قد قررته قبلا المدرسة الفلسفية الرواقية ويؤكد ابن تيمية في سياق تناوله لماهية طبيعة العمل الوظيفي للكليات أنها بطبيعتها قاصرة عن الفعالية المعرفية المثمرة، فهي جوفاء لا أثر لها في الوجود ولا تمدنا بمعرفة ما هو متعين في الخارج بقدر ما تفصح عن علاقات ذهنية شكلية ليس لها امتداد تطبيقي يتجاوز الحقل الإدراكي للسياقات المعاشة ولذا لا يسوغ الدوران في فلكها والخضوع لقواعدها وترحيلها إلى الميتافيزيقا فدورها لا يتجاوز تنظيم الوقائع والأحداث المفردة المجسدة في قضايا كلية على نحو يعبر عن تشكل مشهد ثنائي وضرب من التآزر التحالفي بين الكلي والجزئي في إنتاج المعرفة ولذا يقرر أبو العباس في (الرد على المنطقيين) أن «الكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن لها اعتبار».
إن ثمة بوناً شاسع المساحة بين ذلك الوجود الذي لا يتجاوز أسوار التركيبة الإدراكية، فهو ما ورائي منفصل عن الواقع وبين ذلك الوجود المشخص أمامي -كسقراط، أفلاطون، شجرة التفاح- الذي يأخذ حيزه في الحس المتشكل كحقيقة عينية ذات ملمح مادي بالوسع التعرف عليه عبر وسائط الحس. تلك المعينات المشخصة في الخارج كأجزاء وتفاصيل مغايرة للمادة المرسومة في تلافيف الذاكرة هي التي يُستخلص من استقرائها وتتبع مكونات خريطتها ذلك المعنى العام وهو كلي يحكم العقل باستحالة كونه جزءا من المعين الجزئي.
إن الإنسان يعقل الحيوانية الكلية بعد معاينته لأفراد منها ويعقل النفس النباتية أو الجسم النامي المتغذي إذا تماسّ بصريا مع جملة من الأشجار مثلاً. وكذلك يعقل قدرا مشتركا بين الأناسي وبين الإنسانية الكلية إذا رأى أفرادا مادية تمثلها ولذا يقرر ابن تيمية أن: «الإنسان إذا تصور زيدا أو عمراً ورأى ما بينهما من التشابه انتزع عقله من ذلك معنى عاما كليا معقولا. فهذا هو وجود الكليات» (درء التعارض 5-90-95).
إن علم الإنسان بالحكم في الأعيان المتجسدة كأبعاد، لها امتدادها المشخص أبْده للعقل من الحكم الكلي، وإدراكه لحكم المتجسد ليس مرهونا -بحكم فطريته وعدم افتقار العلم به إلى دليل- بإدراك الكلي كما يزعم الشيئيون وكما أن موضوع الكلي يُنتزع من الجزئيات القائمة كحقائق في الحقل العيني فإنه أيضا يتحقق بالفطرة و»البديهة والضرورة» (الرد على المنطقيين 127).
بل إن تلك العناصر المتناثرة في الجغرافيا يدركها المرء بل «قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية..ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة» (الدرء 3-301).
بيد أن هذا الكلي أيا كانت صورته في الذهن وعلى أي وجه جرى تموقعه في الوعي كفرضية ذهنية إنما هو صوري يتعذر بمجرده أن يمنح أي ضرب من ضروب المعرفة بشيء. ابن تيمية كثيرا ما يطنب في تفنيد ذلك الزعم الذي لا ينهض على ثبوته دليل والذي مفاده بأن الكليات ليست من قبيل المفارق بقدر ما هي ذات امتداد محايث للمتعين فهو يدحض ذلك الادعاء -الذي لا يستوثق ذووه برهانيا على صوابية اعتقاده!- من خلال البرهنة على انتفاء واقعية الكلي وفتح الوعي على أوجه عدم واقعية الماهيات المجردة كالإنسان المطلق والفرس المطلق وهو يقرر أن الكينونة الذهنية بحكم طبيعة هيكليتها من المتاح أن تتصور ما يتعذر تكريسه كواقع قائم كالممتنعات مثلا ف «مقدَّرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج» (الدرء 5-137).
أولئك الفلاسفة التاثوا بمتتاليات غوائل مجافاة حقيقة التوحيد بسبب ذلك التصور الذي لا تسنده الحقيقة الصُلبة «حيث ظنوا أن تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك» (منهاج السنة 3-115).
ومن هنا وفي حالة من هيمنة البطالة العقلية وفي ظل ارتفاع مستوى الانفصال عن عالم الوعي لصالح الاتصال بالمعطيات الخرافية تم تعاطي تلك الأفكار والذود عن مبررات وجودها وموقعتها كعقائد حية في سياق تنفيذي فاتسع مجالها الحيوي وبات لها سطوة أكبر على الذهنية الفلسفية حتى أربكت الوعي وأطاحت بالعقل وآلت إلى تراجع المادة العقدية إلى الحضيض حيث قالوا بمصداقية العقول الفيضية وأن العالم يفيض عن الواجب فيضا متدرجا ولم يجر تكوينه من العدم وأفلاطون هو من رفع لواء التسويق لتلك الفلسفة الفيضية وروج للاعتقاد بواقعيتها وأيضا زعموا واقعية عوالم مفارقة كالمثل الأفلاطونية التي تبنى أفلاطون الدعاية لها مع أنه «لا يوجد في الخارج ما هو كلي أصلا». (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول على هامش منهاج السنة 1-125).
إذا فالجواهر الكلية لا وجود لها بذواتها في الفضاءات الحسية فالإنسان أو الإنسانية مثلاً مفهوم كلي مجرد لا سبيل إلى القول بتجسده إلا في المعطى المادي أي في عامة أفراد الأناسي الذين يشكلون مصاديق لديها قابلية لانطباق المفهوم الكلي المجرد على آحادها كمصاديق عينية -لا كلية ولا مطلقة- في الواقع الموضوعي خارج مساحات الخرائط الذهنية.
إن العقل يلحظ الجمع والفرق فيؤلف في حالة من التسوية بين دوائر المتجانس ويدرك حيثيات التماثل بين الشيئين والتشاكل الماهوي بين المتساويين فيعقل معنى من هذا المشخص ومعنى يشاكله من مجسد سواه ومن ثم وبعد ضرب من الاشتغال المقارناتي وضم الجوامع المشتركة ينتقل إثر ذلك من الحكم على الشيء إلى الحكم على نظيره بما حكم به عليه، إنه يقرن الشيء بمثله فيعي أن حكمه حكمه فما ثبت لهذا انسحب على ذاك وما انتفى عنه انتفى عنه أي أن أحد المثلين يُدرك بذاته والآخر بقياسه على نظيره في مكونات الكينونة وبذا وانطلاقا من اطراد نظام التماثل وانتفاء الفارق -الموجب للتمايز المانع من تقاطع الذاتين على وجه من الوجوه والذي يوجب اختصاص كل جزئية بحكمها الخاص بها- يجري استحصال الكلي الذي يندرج فيه نظام النظائر وذلك كما إذا عاين الماء والماء أو الطين والطين أو العسل والعسل فهو من ثم سيستنتج كضرب من قياس الطرد حكما كليا على القدر المشترك بين الشيء ومكافئه.
وإذا عاين ثمة محكومان بانتفاء المضارعة كالماء والتراب فرّق بينهما متوسلا قياس العكس والحكم في النقيض بغير حكم نقيضه. ولذلك فالعقل كما في التقرير التيمي «دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة لكليات مشتركة عقلية كما يتصور زيداً وبكرا وعمرا ثم يتصور إنسانا مشتركا عاماً» (منهاج السنة-112).
إن ثمة بون ظاهر بين طرفي الإمكان: فالإمكان الذهني يباين الإمكان الخارجي. وطبيعة الكلي كصورة ذهنية لا مادة لها هي معقول يعقله العقل فهي تعيش في وعائه لا تتجاوز عالمه فهي «لا توجد في الخارج كلية عامة وإنما تكون كلية في الأذهان لا في الأعيان وأما الموجودات في الخارج فهي أمور معينة، كل موجود له حقيقة تخصه يتميز بها عما سواه لا يشركه فيها غيره» (نقض المنطق في مجموع الفتاوى 9-233).
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة