في العام 1998 حين كان ديواني الثاني (التداخلات) بين يديْ (رقابة المطبوعات) في (وزارة الإعلام) من أجل الحصول على فسح لطباعة ونشر الكتاب - عن مؤسسة إصدارات النخيل.. اعترض الرقيبُ على عبارة في إحدى القصائد: (.. وهل ترضى بأن يرثَ الهلالَ الصعبَ من كانت مواطِنهُ وعودا..)
كان الرقيبُ مصراً على حذف هذه العبارة لأنها - بحسب رأيه - تعني (المسجد) بكلمة (هلال) وتعني (الإسلام) بكلمة (مَواطِن)!!
وفي العام 2001 حين كان ديواني الثالث (قصيدة الأفراد) عند الجهة نفسها، اعترض الرقيبُ كذلك على عبارة: (يفترُّ فيكَ هلالُكَ الفضيُّ مبهوراً بأبهة البراح..)..
كان الرقيبُ مصراً أيضاً على حذف هذه العبارة، لأنها - بحسب رأيه - تعني (المسجد) بكلمة (هلال) وتعني (التحرر) بكلمة (براح)!!
وبصرف النظر إن كنتُ أقصد تلك المعاني أو لا أقصدها، فهذا (شعر) والشعر لا يؤخذ بهذه الطريقة النمطية الجامدة من التأويل.. الشيء الذي دفعني إلى الاعتراض، في كلّ مرة، عند أعلى المسؤولين في وزارة الإعلام آنذاك وشرحتُ لهم أن (الهلال) يعني أشياء كثيرة لا يمكن حصرها في دلالة واحدة، فهو (بداية) كل مرحلة و(نهايتها)، وهو تاريخٌ، وهو بزوغٌ وولادةٌ وأفولٌ ورحيلٌ وحلمٌ وطموحٌ ووو.. إلخ؛
حتى أتيت على ذكر الآية الكريمة: (يسألونكَ عن الأهلّةِ قل هي مواقيتُ للناس..) - إلى آخر الآية 189 من سورة البقرة - فتمّ فسح الكتابين بعد تكرار (السؤال) نفسه و(بعض الإجابات) نفسها مرتين، وكم ذا سنكرر مسألةً فصل فيها ربّ العالمين؟!
فالأهلة (مواقيت) وحين أقولُ (الهلال الصعب) فأعني (الميقات الصعب) أو (الوقت الصعب) وحين أقول (هلالكَ الفضيّ) فالقصد واضحٌ حرفياً إن أخذناه أخذاً سطحياً، بينما هو ضاربٌ في العمق والاحتمال إن كنا نجيد الأخذ أدبياً.. ولستُ أدري إلى متى ننظر إلى المعاني وكأننا نتلمس الجدران المحيطة بنا، مع أن مدى الرؤية (والرؤيا) أبعد من أطراف يدينا أو أصابعنا؟!
ومن بداهة القول: إن (المنارة) التي يوضع في أعلاها (الهلال) دليلاً على (المسجد) ليست من السنة التي جاء بها الرسول الكريم، إنما هي مستحدثة في عصر الدولة العثمانية - كما في أغلب الروايات - فالعجيبُ أن يكون هذا حالنا مع (الأهلة) ومعانيها..!
في زيارتي الأخيرة لمكة المكرمة - من بعد طول هجرة وغياب - استوقفني مشروعٌ ضخمٌ لا يزال في مراحله الأولى من الإنشاء، تقوم به إحدى مؤسسات (الطوافة) بقيادة المبدع (عدنان كاتب) رئيس مجلس إدارتها الذي حقق للمهنة ومنتسبيها نقلة رائعة لصالح الحاج والمعتمر.. وقد شدّني اسم المشروع (الأهلة) فإن كان استثمارياً كما يجب، فهو (ثقافيّ) كما أقرأ في عنوانه.. وهو تحفة معمارية تضاف إلى التحف والمعالم المتطورة في البلد الأمين.
يتخذ المشروع شكل أربعة أهلة (هي الأشهر الحُرم دون شكّ: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم) فالمعنى والمبنى من أجل ضيوف الرحمن في هذا الموضع، لأن المؤسسة القائمة على المشروع شعارها (خدمة الحاج شرفٌ لنا) فليس ثمة ما يدعو لأسئلةٍ أخرى!
فتحية لكلّ مبدع في مجاله، حين يضع لمساتٍ (ثقافية) تعطي كلّ (استثمار) أبعاداً جمالية في المسمّى والشكل والمضمون..
وبالعودة إلى (الأهلّة) لغةً، نجد في (لسان العرب) مادة (هلل) أكثر من عشر صفحات تتضمن شواهد شعرية عديدة لمصدر الكلمة وتفريعاتها، غير أنّ أياً من تلك الأبيات التي استشهد بها ابن منظور لم ترقَ - في نظري - إلى المستوى الفني في المفردة نفسها، وكأنما الشعر المنظوم حتى ذلك الزمن لم يتجلّ بهذا الحدث المتكرر - رغم تكرار المسائل عن ماهيته - فكانت الأبيات من مثل ما قال ابنُ الأعرابيّ:
وشهرٌ مُسْتَهَلٌ بعدَ شهرٍ
ويومٌ بعدَهُ يومٌ جديدُ..!
ffnff69@hotmail.com
الرياض