في البدء لا بد أن أذكر بدايات الغرس الأول؛ حيث إرادة الله اقتضت أن أكون ضمن طلبة قسم المكتبات في جامعة الإمام محمد بن سعود، وذلك عام 1399هـ/ 1979م، وقد جاءت حكمة الله لتكمل ما بدأت به حياتي مع الكتاب، فما زلت أذكر أني وُضعت في جماعة المكتبة في الصف الخامس ابتدائي، ثم واصلت ذلك في المرحلتين المتوسطة والثانوية، فكان الكتاب رفيقي منذ البدء، بل إنني عينت في أول لجنة تنسيق وإعادة مراجعة تكوين مجموعات مكتبة معهد الرياض العلمي؛ لأكون في أول امتحان أمام الكتاب، واتفق الإخوة في اللجنة على إتلاف وحرق عدد من الكتب التي لا تتفق مع ميولهم، وقد تكون رغبات الأساتذة أو الإدارة؛ فتحايلت عليهم وسرقت عددا من الكتب لجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأبي القاسم الشابي وغيرهم.
في قسم المكتبات كُلف الأستاذ/ يحيى الساعاتي - الدكتور يحيى بن محمود بن جنيد بإلقاء محاضرات في هذا القسم، وكان لي الشرف للتعرُّف عليه بعد أن قابلته لأول مرة، ثم توطدت العلاقة أكثر حينما وجد أنني المواطن الوحيد في قاعة القسم؛ حيث إن بقية الطلبة من منح الجامعة، وهم من جنسيات عربية متعددة، ثم طرح علي فكرة التعاون مع مجلة عالم الكتب التي ستصدر قريباً - أول عدد صدر لها في محرم 1400هـ - فوافقت على ذلك.
بعد عددين أو ثلاثة أعداد من صدورها جاء انضمامي إليها، ثم بعد أن دخلت إلى المبنى الصغير أخذ بيدي (الساعاتي) ليعرفني على أصحاب المجلة، فكانت المفاجأة لي أكبر حينما التقيت الشيخ عبد العزيز الرفاعي والأستاذ عبد الرحمن المعمر، وتشرفت أكثر حينما التقيت مجموعة كبيرة من الأدباء والمثقفين في المقر الثقافي الذي يجمع: مجلة عالم الكتب، دار الرفاعي للنشر والتوزيع، دار ثقيف للنشر والتأليف.
كانت هذه المكاتب موطن جذب لكل مؤلف وكاتب وباحث، كيف لا وهؤلاء الأساتذة على علاقة كبيرة واسعة مع معظم الوسط الثقافي؛ فكانت لقاءاتي للتعارف والاستفادة والنهل من علم كل واحد أقابله، خاصة أن الدكتور الساعاتي حريص على تعريفي بكل زائر؛ لهذا عملت لبعضهم كشافات كتبهم، والآخر بحثت له عن موضوعات تخصه، وآخر جمعت له مواد تعينه على كتاب بين يديه، وهكذا جميع وقتي ومعارفي وعلاقاتي تنصب في هذا العلم.
خلال العامين 1400- 1401هـ تكونت ملكتي الببليوجرافية بكل تعددها وتفاصيلها، بعد أن مررت بعمل ببليوجرافي مكثف، وإنتاج أعمال ببليوجرافية متنوعة، وقد نُشرت كلها في المجلة المتخصصة: عالم الكتب، وهو أمر طبيعي. ثم التقائي الشيخ الرفاعي - عضو في الهيئة الاستشارية لمجلة العربي - الذي جمعني بالأستاذ حمد القاضي - وهو صديق سابق - رئيس تحرير المجلة العربية، لكي أنفذ رغبة الشيخ حسن آل الشيخ وزير التعليم العالي المشرف العام على المجلة، رغبته في تكشيف المجلة العربية، وقد كانت مهمة صعبة علي تطلبت الوقت والجهد والمعرفة والتوسع في علوم المكتبات والمعلومات؛ لأن طبيعة التكشيف تعتمد على قراءة المجلة موضوعاً موضوعاً، فأفادني صديق (سوداني) يعمل في جامعة الملك سعود، وهو خبير سابق في هذه الموضوعات، وبفضل الله صدر الكشاف الأول الذي غطى خمس سنوات من عمرها.
لقد تم كل هذا وأنا ما زلت شاباً غضا لم أبرح الكلية بعد، بل ولم أتخصص في علوم المكتبات والمعلومات، لكن هذه الأعمال اختصرت المسافات كثيراً؛ لهذا جاء الطلب مرة ثانية من الوزير نفسه الشيخ حسن آل الشيخ، وقد قابلته شخصياً برفقة الأستاذ عمر الحصين، وسررت لثنائه وإعجابه بصدور أول كشاف علمي متخصص للمجلة العربية، ولهذا رغب أن أُكمل العمل في تكشيف المجلة.
في الفترة نفسها اشتغلت على مشروع طموح، إصدار ببليوجرافيا خاصة بالشعر الشعبي في المملكة والخليج، وقد تطلب مني التهيؤ والتفرغ لوقت طويل؛ فزرت المكتبات الخاصة للأساتذة: عبدالله بن خميس، حمود النافع، إبراهيم اليوسف، ود. سعد الصويان، حيث وجدت لديهم كتباً نادرة، ودواوين شعبية لا يمكن أن تخطر على بال، وقد استطعت تكوين وجمع مادة ضخمة حول هذا الموضوع. ثم كتب لي الأستاذ العلامة: عبدالله بن خميس مقدمة ما زلت أذكر عنوانها: الأدب الشعبي صنو الأدب الفصيح، وحينما علمت جمعية الثقافة والفنون بهذا الكتاب طلبته مني لطباعته، ثم انتشر الخبر وتناقلت الصحف موضوع هذا الكتاب قبل صدوره؛ فجاءتني اتصالات متضاربة، منها من يؤيده ويطالب بنشره بسرعة، ومنها من يرفض ويحتج ويعارض، ويحملني اللوم في إيجاد قيمة مرجعية لهذا الأدب الشعبي، وفي نظرهم أنه لا يستحق لأنه عامي، وبعملي العلمي أضع له مكانة رفيعة وهي مرفوضة، وكان أبرز الأسماء الدكتور عبدالله الغذامي، الذي سألني أسئلة كثيرة عن مضمونه وفحواه وما الغرض منه، إلا أني لم أخرج بنتيجة من اتصاله.. هل هو معه أو ضده؟ وفي آخر لحظة قبل دخول الكتاب إلى المطبعة أوقفته وبقي لدي محفوظاً مخطوطاً إلى اليوم!
كذلك ما زلت أذكر حادثة تنصب في موضوع التكشيف: وهي جزء من العمل الببليوجرافي؛ حيث طُلب منا بوصفنا طلبة اختيار كتاب موسوعي أو دورية لتكشيفها؛ فوقع في يدي وأنا في زيارة للصديق السوداني في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود على جريدة الرائد للأديب/ عبد الفتاح أبي مدين؛ فاشتغلت عليها أيام عدة، وحين انتهى الأسبوع طلبت منه استعارتها؛ فرفض لاعتبارات كثيرة، أهمها أنها نادرة وليس هناك إلا نسخة واحدة، ولا يمكن خروجها، إلا أنني ضغطت عليه وتحمَّلت مسؤوليتها، خاصة أن المكتبة مغلقة في يومي الخميس والجمعة، ولن يعلم بذلك أحد؛ وبالفعل وافق على مضض وتشدَّد في النصيحة والاهتمام بها. وحدث ما لم يكن بالحسبان؛ فقد جاءت الرياض تلك الليلتين أمطار غزيرة جداً، وبما أن غرفتي ومكتبتي في الدور الثاني من المنزل فقد تعرضت في اليوم التالي وبعد الأمطار الشديدة المتواصلة إلى إحداث فتحات في السقف، ثم نزل المطر على مكتبتي ووصل إلى مجلد الدورية؛ فحزنت جداً بل أصبت بقلق وخوف لم ينقشع من صدري إلا بعد طمأنة الصديق السوداني لي، وإخباري بأن الأمر سهل ولا داعي للقلق؛ لأن المكتبة تحتفظ بنسخة أخرى على المكروفيلم.
يتبع
الرياض