تمثل الشفافية والتحيز شرطا أساسا ومكونا رئيسا في الثقافات المحافظة، تلك الثقافات التي بنيت على المباشرة وتأسست عليها فلم تعد تحتمل الازدواجية أو المواقف ذات الأبعاد المتعددة، بل حتى في أحيان كثيرة لا تحتمل الوسطية في نظرتها للأشياء، إذ الباعث عن الارتياح النفسي والمعرفي انحياز الحقائق نحو إحدى الضفتين حق أو باطل، حسن أو سيء، خطأ أو صواب، وبالتالي تشكيل القناعات لأن ذلك يمثل المباشرة التي لا تتطلب الكثير من التأمل والتفكير، بل حتى التبعية والضدية في المواقف وهما مسؤوليتان أدبيتان إنسانيتان وقيمتان أيضا في كثير من الأحيان، لا يجد العقل المحافظ مزيدا من الوقت للمفاضلة بينهما لاختيار الأنسب وفق منطق عقلي أو أيديولوجي، وعليه ف (ما أنا إلا من غزيرة) حيث لا مجال إلى مواربة أو مفاضلة أو توسط. تجلت هذه الفلسفة في الثقافة العربية منذ مراحل تكوينها المنظورة (العصر الجاهلي)، حيث تحتفي هذه الثقافة بالثابتين على مواقف شديدة الوضوح غير المتنازلين عنها، ما جعلها تخلِّد هذا المفهوم من خلال شواهد كثيرة في التراث العربي. ف (نحن قوم لا توسط بيننا).
يأتي هذا العامل مؤكدا للثبات بوصفه أصلا بل بوصفه (قيمة)، حتى تجاه المفاهيم غير الإيجابية التي تفرضها ثقافة الولاءات الثابتة المختلفة.
لذا يأتي السياق الديني لتصحيح العديد من المفاهيم الثقافية المتجذرة في الذاكرة العربية على غير هدى، وليؤكد أن التغير أو التحول هو الأصل، لهذا جاءت الدعوات متتالية في مصدري التشريع لممارسة التحول الذي يمثل شرطا صارما للتغير (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وربط التغير بالنفس إضافة لأسلوب الشرط، هنا يحملان دلالات قوية على مرمى التغير وشرطه وقبل ذلك أهميته.
وعلى مستوى اللغة وهي وعاء الفكر والثقافة تأتي الديناميكية مبدأ أصيلا وأساسا راسخا فيما الثبات فرع، فالمفردة النكرة هي الأصل، والتنكير كما هو معلوم يحمل دلالة الحراك والتنوع وعدم الثبات والتعيين، بعكس التعريف الذي يؤطر الاسم ويحده ويقصره على المسمى بعينه، كما هو الحال أيضا في الإعراب مقابل (البناء) حيث الإعراب (الحراك) أصل والبناء متفرع عنه، ومن هنا يمكن القول بأن التغير والتحول هما الأصل مقابل الثبات؛ ولذا فهما يشكلان المظهرين الصحيين للثقافة الطامحة، على المستويين الفردي والجمعي. وهذا مفهوم يتناقض مع معطيات وأدوات المحافظة؛ حيث تركن إلى الثبات والتبعية وتعتبرهما أصلا مما جعل التحول –وفق هذه الثقافة– الذي يتطلب الاستقلالية يمثل (العيب) الذي يقدح في المتحول ويقلل من قيمته، بينما يعلو شأن الثبات والتبعية، الأمر الذي يفسر كيف عاش دريد بن الصمة في عقولنا وعشعش فيها منذ توحده المشؤوم مع غزية، لأننا منذ ذلك الحين في كثير من أحوالنا مرتهنون ل (غزية) ما.
هذه التقليدية ساهمت في تأصيل هذا المكون الثقافي وتشكيل حراسات حماية له ضد أي اختراق لهذا (المقدس) نتج عنه الإصابة بعرض (وراثة الأفكار) الناتج عن تجيير العقول أو استلابها لتُمنح القناعات والمفاهيم بالنيابة، انطلاقا من أفضلية السابق والتسليم بموروثه الفكري، واعتلاء هذا الموروث عن المراجعة والنقد، وهو عرض وثني في أصله (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)، وقد استطاع هذا التقليد أن يظل على قيد الحياة مستفيدا من إمكانية التناسخ، مما نتج عنه تعطيل مهارة صناعة الأفكار على مستوى السلوك وإنتاجها بل حتى مراجعتها وتطويرها، يتجلى ذلك من خلال شيء من التأمل في المسلك الثقافي والفكري للبيئة المحافظة على المستويين الشعبي والنخبوي وإن كان -على مستوى النخب - مجالا أرحب لأسئلة أكبر حول المثقف المستقل في الوسط المحافظ.
isms11@hotmail.comالقصيم