وجِلةً تدور أعينها ذات اليمين وذات الشمال، تتهادى قطة صغيرة وسط الرصيف الذي يعزل مسار الخدمات عن الشارع السريع على طريق الملك فهد. وجاءت هذه المفارقة في وضح النهار، ساعة ذروة استعمال الطريق. الساعة التي لو قيض لإنسان راشد أن يجتاز الطريق خلالها لما تهيأ له. أيّ أمر انتهى بهذه القطة البائسة إلى ذلك المكان، حيث ستلاقي على الأرجح حتفها بلا اكتراث؟ وهكذا، يتعثّر نفر منا في دهاليز الحياة هنا وهناك دون مبالاة، إلى أن تفضي بهم في خاتمة المطاف نحو حافة الخطر، إذ سيكونون منه قاب قوسين أو أدنى. ولقد آل الحال البائس بالقطة إلى أشد الأماكن إغراء من جهة المواطنين الذين ما تسنّت لهم زيارة المدينة، ونتعرف حين نصادفهم في أسفارنا على الشوق الذي يكنّونه لمعاينة هذا الشارع. وتلكم هي الكوميديا الساخرة خاصة الحياة، ففي الحين الذي تشرأب فيه نفوس أقوام لما بين يدي آخرين، يبذل أولئك الآخرون وسعهم للفكاك مما بين أيديهم ذاك، ونيل ما لدى أولاء الأقوام. إنها أيقونة الحضور والغياب التي مافتئت تعبث بنا، وتبعثر الجمال الذي في ثنايانا. نمضي أعمارنا مسكونين بالغياب وناسِهِ، على حساب الحضور المذهل والحاضرين الأوفياء. ولا نبالي بسائر المتاح لنا، سيّما من البشر، إلا فور خسرانه. وياله من خسران مبين. أقسى ضروب الندامة وقت أن نندم حين لا يجدي الندم.
وفي مشهد القطّة ذاك، تواكب القطة وتتخطاها آلاف من العربات والبشر، دون أن يعبأ بها أيّ منهم، على الرغم من دنو المسافات، شأنها شأن بعض البشر. فأيّ حظ عاثر يتربص بالإنسان في أيّامنا هذه وقت أن يؤول صوب ذلك المصير، وحيدا بين الجموع، أو تائها وسط الزحام؟ يحتشد الناس من حوله حذو المناكب، بيد أن أحدا منهم لا يلقي له بالا. في المكان القفر البعيد، يغدو الأمر أخف وطأة يوم يمسي المرء لوحده، إذ إنّ الأمل خير مطية آنذاك. لكن ما عساه أن يصنع من أحالت الحياة الناس قبالته إلى عربات قاسية وأنانية وعلى عجل، ينطلق كل منها في دروب شتى ومتعاكسة؟ ذلكم الذي تحيله الحياة إلى قطة عالقة بين الزحام، لا أحد يرخي لها سمعه جراء الضجيج.
ترى، أيّ خطب حلّ بقطة الطريق تلك: النجاة أم الدهس؟ الحال أنه لا تتوافر معلومات في هذا الصدد، تماما كما هو أسلوبنا في هذه الآونة، حيث نوافي إنسانا ما ذات مصادفة، ثم تتقطع بيننا السبل في غالب الأحوال، وكأنّ شيئا لم يكن.
ts1428@hotmail.com
الرياض