النحاة لم يفسدوا اللغة، وإنما أفسدها الذين جهلوا ما قدمه النحاة من محاولات عديدة أقل ما تُوصف به أنها محاولة علمية من الدرجة الأولى.. وقد أحزنني ما قرأت من كلام الدكتور علي فهمي خشيم، وما لمست فيه من جرأة ومبالغة لا مبرر لهما من اتهام النحاة بإفساد اللغة، وقد ذكّرني هذا الكلام غير المنضبط علميّاً بما قاله كثيرون من قبله أمثال سلامة موسى، ودريني خشبة، ولويس عوض، وشريف الشوباشي.
الذي أفسد اللغة هم الذين لا يستطيعون أن يقفوا على الدور الفعَّال الذي قدمه علماء العربية متمثلاً في أنظمتها المختلفة، ولست في هذا المقام معنيّاً بالدفاع عن النحاة - وأشرف بالدفاع عنهم بلا شك - لكنني أحاول أن أقرأ سر هذا الهجوم المتلاحق على النحاة من حين إلى آخر.
النحاة - يا سادة - هم أصحاب اليد الطولى في الحفاظ على هوية العربية ثابتة عتية طوال القرون الخوالي، فهم بحق أمراء الكلام وملوكه - كما كان الشعراء أمراء البيان - وإني لأستغرب من هؤلاء الذين لا يملون من الغمز واللمز- وحُق لي - لكي يقللوا الجهد الكبير الذي قدمه الأكابر، مرة عندما قالوا بأن هذا التراث النحوي إنما هو تراث منسلخ من تراث حضارات أخرى؛ كالنحو اليوناني، والهندي، والفارسي، ولست أدّعي أن العربية لم تتأثر بهذه الحضارات فليس لجاهل أن يقول ذلك، فعدم التأثير والتأثر يُعد دليلاً سلبيّاً على نهضة الأمم، وكما هو معلوم في حضارات الأمم أن الأمة القوية هي التي تستطيع أن تمتزج بحضارة الآخرين صانعة لنفسها حضارة متفردة بين الأمم.
يا دكتور علي: اتّق الله في النحاة، وألق نظرة بعين الرضا على مستويات العربية، فأي نظام صوتي استطاعوا أن يصفوه لنا بدقة متناهية من مخارج وصفات وخصائص للصوت دون أن يعتمدوا على المعامل الصوتية الحديثة الموجودة الآن والتي شهدت بعبقرية العرب، وانظر إلى النظام الصرفي وعلى الميزان الصرفي تحديداً فهو يُعد قفزة من قفزات العلوم الإنسانية، وكيف أن هؤلاء النحاة الذين تسخر منهم قد استطاعوا أن يخضعوا جميع الكلمات التي يدخلها علم الصرف لميزان معياري منضبط لدرجة عالية جدّاً، إضافة إلى نظام التحليل الصرفي في العربية حيث إنه يُعد من الأنظمة الرائدة، كذلك حديثهم عن المورفيم ووظائفه وأنماطه ودلالاته.
أزعم - وليت هناك من يكذب زعمي - أنه نظام لم يُتح لأي لغة بهذا الضبط، في الوقت الذي يمر فيه النظام الصرفي الغربي بالعديد من الأنظمة والمناهج غير المنضبطة من وجهة نظري.
ولا أريد أن أقدم هنا شرحاً كاملاً للجهد الصرفي فيكفي الدكتور علي فهمي أن ينظر إلى قضايا الإعلال والإبدال والإدغام حتى يدرك بحق إذا كان هؤلاء مفسدين أم عباقرة الإصلاح.
أما عن النظام النحوي الذي اتهم أصحابه بالإفساد فليس هناك نظام نحوي على مستوى اللغات الأخرى أكثر كفاءة من النظام العربي، وليس هذا من قبيل التعصب؛ بل هو شيء ملموس يعرفه أدنى من له اطلاع على نحو اللغة العربية والأنحاء الأخرى، وهو نظام يقوم على علاقة ربط المباني بالمعاني في شبكة متكافئة من العلاقات والأنظمة أتت على نحو بديع، ويكفي حديثهم الخالد عن العلاقات المعنوية في البناء النحوي، كعلاقة التبعية، والإسناد، والتخصيص، والمخالفة، وكذلك حديثهم عن العلاقات اللفظية - التي يسميها شيخي تمام حسان بالقرائن - كعلاقة الإعراب، والرتبة، والصيغة، والمطابقة، والربط، والتضام، والأداة، والتنغيم - وإن كان الأخير لم يكن بمستوى الكثرة مقارنة بما حظيت به القرائن الأخرى من الاهتمام.
ولعلي أحيل القارئ الفاضل إلى ما قاله النحوي العبقري الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائله، يقول الشيخ للذين يقللون قيمة النحو: (وأما النّحوُ فظنَّتهُ ضرباً منَ التكلُّف وباباً من التعسُّفِ وشيئاً لا يستندُ إِلى أصلٍ ولا يُعتمدُ فيه على عقلٍ.. وأنَّ ما زادَ منه على معرفةِ الرَّفعِ والنَّصبِ وما يتصلُ بذلك مما تجدُهُ في المبادىء فهو فضلٌ لا يُجدي نفعاً ولا تحصَلُ منه على فائدةٍ.. وضَرَبُوا له المثَلَ بالمِلْح - كما عرفت - إِلى أشباهٍ لهذه الظُّنونِ في القَبيلينِ وآراءٍ لو عَلموا مَغَبَّتها وما تقودُ إِليه لَتَعَوَّذوا باللّهِ منها ولأنِفُوا لأنفُسهم منَ الرِّضا بها ذاك لأنَّهم بإِيثارِهم الجهلَ بذلك على العِلم في معنى الصَّادِّ عن سَبيلِ الله والمُبتغي إِطفاءَ نورِ الله تعالى).
ويقول: (وأما زُهُدهم في النَّحو واحتقارُهم له وإصغارُهم أمرَهُ وتهاوُنهم به فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تقدَّم وأشبهُ بأن يكونَ صدّاً عن كتابِ الله وعن معرفةِ معانيه ذاك لأنَّهم لا يجدونَ بُدّاً من أنْ يَعْترِفُوا بالحاجةِ إليه فيه إذ كان قد عُلمَ أنَّ الألفاظَ مغلقةٌ على مَعانيها حتّى يكونَ الإِعرابُ هو الذي يفتحها وأنّ الأغراضَ كامنةٌ فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها وأنه المعيارُ الذي لا يُتبيَّنُ نُقصانُ كلامٍ ورُجحانهُ حتى يُعرضَ عليه.. والمقياسُ الذي لا يُعرف صحيحٌ من سقيمٍ حتّى يُرجَعَ إليه.. ولا يُنكِرُ ذلك إلا مَن نَكر حِسَّه وإلا مَن غالطَ في الحقائقِ نَفْسَهُ وإِذا كان الأَمرُ كذلك فليتَ شِعري ما عذرُ مَن تهاونَ به وزهدَ فيه ولم يرَ أنْ يستسقِيهُ من مَصَبه ويأخذَهُ من معدِنه ورضيَ لنفسه بالنَّقصِ والكمالُ لها مُعرضٌ وآثر الغَبينة وهو يجدُ إلى الرِّبحِ سبيلاً).
ويقول: (واعلمْ أنْ ليسَ النظُم إِلا أن تضعَ كلامَك الوضعَ الذي يَقتضيهِ علمُ النّحو وتعملَ على قوانينهِ وأُصولِه وتعرفَ مناهجَهُ التي نُهِجَتْ فلا تزيغُ عنها وتحفَظُ الرُّسومَ التي رُسمتْ لك فلا تُخلَّ بشيءٍ منها. وذلك أنَّا لا نعلمُ شيئاً يبتغيِه النّاظمُ بنظمِه غيرَ أنْ ينظرَ في وجوهِ كلَّ بابٍ وفُروقه فينظرُ في الخبرِ إِلى الوجوهِ التي تَراها في قولك: (زيدٌ منطلقٌ) و(زيدٌ ينطلقُ) و(ينطلقُ زيدٌ) و(منطلق زيدٌ) و (زيدٌ المنطلقُ) و(المنطلقُ زيدٌ) و(زيدُ هوَ المنطلقُ) و(زيدٌ هو منطلقٌ).
ويقول: (ثم يذكر عبد القاهر أهمية النحو وضرورته لمخاطبه): (ما أظنُّ بكَ أيها القارئ لكتابِنا إِن كنتَ وفَّيته حقَّه من النظرِ وتدبَّرتَه حقَّ التدبرِ إِلاّ أنكَ قد علمتَ علماً أَبى أن يكون للشكِّ فيه نصيبٌ وللتوقّفِ نحوكَ مذهبٌ أنْ ليس النظمُ شيئاً إِلاّ توخيِّ معاني النحو وأحكامِه ووجوهِه وفروقه فيما بَيْنَ معاني الكلم . وأنك قد تبيّنتَ أنه إِذا رُفِعَ معاني النَّحو وأَحكامُه مما بينَ الكلمِ حتى لا تُرادَ فيها في جملةٍ ولا تفصيلٍ خرجت الكلم المنطوقُ ببعضِها في أثرِ بعضٍ في البيتِ من الشعرِ والفصلِ من النَثْر عن أنْ يكونَ لكونِها في مواضِعِها التي وُضِعَتْ فيها مُوجبٌ ومُقتضٍ وعنْ أن يتصوَّر أن يقالَ في كلمة منها إِنها مرتبطةٌ بصاحبةٍ لها ومتعلِّقةٌ بها وكائنةٌ بسببٍ منها وأنَّ حسنَ تصوُّرك لذلك قد ثَبَّتَ فيه قَدَمَكَ وملأ مِنَ الثقةِ نفسَك وباعدَك من أن تحِنَّ إِلى الذي كنتَ عليه وأن يَجُرَّكَ الإِلفُ والاعتيادُ إِليه وأنك جعلتَ ما قلناه نقشاً في صدركَ وأثبتَّهُ في سويداءِ قلبكَ وصادقتَ بينَه وبينَ نفسِك.. فإِنْ كانَ الأمرُ كما ظنناه رجونا أن يصادفَ الذي نريدُ أن نستأنفَه بعونِ الله تعالى منكَ نيةً حسنةً تقيكَ المللَ ورغبةً صادقةً تدفعُ عنكَ السأمَ وأَرْيحيةً يخفُّ معها عليك تعبُ الفِكْر وكدُّ النظر).
أمر أخير يتعلق بالنحاة في وضعهم للمعجم العربي، ولعل الدكتور يتفق معي أن النظام المعجمي العربي فريد ومتميز ليس لأنه يعطينا طريقة لنطق الكلمات، أو الرصد النوعي للصيغ المتعددة، أو طريقة الاشتقاق، أو فكرة الجذر اللغوي، أو شرحاً حيّاً على معاني الكلمات وتقديم شواهد لغوية لها من كلام العرب، لكن هناك أمراً أراه جديراً بالذكر هنا وهو الدقة البالغة في النظام المعجمي العربي بتعدد مدارسه المعجمية التي رصدت لنا أنواعاً متعددة من المعاجم المتخصصة.
وفي النهاية تبقى لعل محشرجة في نفسي تنادي بأن يلتزم كل متخصص في دائرة اختصاصه، فهذا أفضل لنا ولهم، حتى لا يتكلم الناس فيما لا يعلمون، ولا أعني بهذا احتكار العلوم، وإنما فقط ليتكلم عن النحو من يعلم حتى يتعلم من لا يعلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)
د. محمد عبيد
أستاذ النحو والصرف والعروض المساعد بجامعة الملك عبد العزيز
Abeed1974@hotmail.com