Culture Magazine Thursday  28/05/2009 G Issue 285
فضاءات
الخميس 4 ,جمادى الآخر 1430   العدد  285
علاقة الرواية بالفنون الأخرى
أ.د. علي حداد

 

(1)

علاقة الرواية بالفنون الأخرى حقيقة لا نحتاج إلى كثير جدل لتدبر ما يخبر عنها من أدلة موثقة لها، إذ الفنون الإبداعية كلها ملتقى لممارسة (شخصية) في إنتاج رؤية ما عبر التشكيل الجمالي الذي تتواشج موارده في تناسخ مبدع، وان اختلفت أدواته ووسائله التي تنهض بالإعلان عنه.

إن مساحة من الوعي والثقافة والتواصل الجمالي، المؤسس على باصرة تتأمل ما حولها، هي بعض عدة الإبداع التي لا مناص له سواها، ليحقق غاياته في الرؤية والبعد الفني المخبر عنه وذلك كله أفق لتلاقي الفنون وتلاقحها واتساق كينونتها في حضورها الإبداعي الذي تذهب منه إلى حيث تشكلها الأجناسي الخاص.

والرواية ومنذ ان أعلنت عن نفسها جنسا أدبيا ممعنا في خصوصيات التشكل السردي وأدوات التجربة الإبداعية التي تمتلك سمات تميزها عما سواها من الفنون، فأمست (عالمياً) (ملحمة العصر الحديث)، وبتوصيف حضورها العربي (ديوان العرب المعاصر) ومنذ أن أصبح السرد علما له أسسه ونظرياته ومنجزاته في الاصطلاح والتدارس النقدي. منذ ذلك كله وسواه ربما لم يعد ادعاء ان للرواية كينونة حضورها الذي لا يجاري فيما استثبت له من قيم وممارسات وإنجاز غيب أوجها من النظر المتأمل لما لسواها من الفنون الإبداعية الأخرى فيها، بمستندات التفرد والاكتمال الفني والاستحواذ الأدائي في قيمه وجمالياته على ما يمكن لغيرها من الفنون أن يدعيه وينسبه حضوراً له في التجاذب التعبيري والإبداعي الراهن. وفي خضم ذلك الإنجاز المتوتر: تجربة وتنظيراً للرواية لم يغب يوما عنها ذلك التلمس الحصيف والمتأنق لآفاق يجوس فيها بصرها فيما حولها من أنواع الإبداع الجمالي الإنساني المتعدد، سواء ما كان مجاورا لها في قيم تشكله سردا كمثل المسرحية والحكاية الشعبية والاسطورة أم ما تحققت فيه تلك المجاورة عبر الاداة اللغوية الواحدة (الشعر) أو ما تستجيب معه لقيم التمثل الإبداعي باتساع تشكله: الموسيقى، الفنون التشكيلية (الرسم خاصة)، السينما.

هكذا تسللت إلى عالم الرواية التعبيري برغبة من مبدعيها أو بقوة التواصل بين فنون الإبداع جميعها منصفات جمالية، تشير إلى تلك الفنون وتخبر عن الكيفيات التي يمكن للإبداع أن تتماهى أجناسيته المتعددة فيها.

ولعله سيكون حديثا متسعا وطويلا ذلك الذي تخبر عنه علاقة الرواية بالفنون الأخرى، يمكن له أن ينطلق من الرواية، لا بوصفها جنسا أدبيا بل بما استتب لعلم السرد وتجلياته الفلسفية الخاصة من تنظير ومنافذ تمثل تطبيقي ليجس فاعلية الفنون الأخرى - كل على حدة - فيما أسماه (ميشيل زيرافا) (المؤسسة الروائية) التي يتسع فناؤها لمواطن من الرؤى الاجتماعية والفكرية والجمالية العميقة. وبالمقابل يمكن للدارس ان يغير سهم الفاعلية، فيمده إلى حيث يخبر عما امتلكته الرواية - بحضورها السردي ومكوناته وآليات اشتغاله - من مساحات تحسب لها في تلك الفنون.

وسيكون الانشغال المعرفي باتساعه هذا مهمة تنهد إليها دراسات وقراءات وشهادات لا حد لها، يمكنها أن تؤسس لسجال نقدي - نظري وتطبيقي - لا غنى عنه.

ولن يكون طموحنا في هذا الابتسار التأملي الخاص بنا أن نذهب إلى ذلك كله وسنوقف وكدنا عند انشغال محدد بما للفنون من مناطق تنافذ في الجنس الروائي، باحثين عن إجابات لأسئلة موجزة، في هذا المجال التأملي الباذخ والخصب كذلك، وعندنا فان مناشدة تلك القيمية المثيرة من التعالق بين الرواية وسواها من الفنون يمكن استنطاقها عبر مقاربات من التدارس نضعها في الآتي:

- البعد الفلسفي الذي نهض عليه الوجود الرؤيوي والجمالي للفنون منذ إرهاصات حضورها الجنيني في حاضنة من الاحتياج الإنساني المتسق، وحتى تفرقها الأجناسي المتعدد في سماته وعناصر إنتاجه.

- قيم التعالق بين الرواية وسواها من الفنون في تجسدها التنظيري العام وفي المشخصات القيمية ذات الرؤى المشتركة.

- تحسس آفاق التماهي التعبيري في الممارسة العملية التي حققها المنجز الروائي عالميا وعربيا من خلال استنطاق عينات روائية لها حضورها الإبداعي المهم.

(2)

ربما أمكن البدء من (الشعر) الذي تعد (الملحمة)، وهي نوع من أقدم فنونه - الحاضنة الوراثية للتشكل السردي البعيد الذي تمثلته الرواية في شكلها التعبيري الحديث. وإذا أمكن الاعتماد على هذه القناعة فسيكون الشعر لا النثر هو الشكل التعبيري الذي خرجت الرواية من معطفه عبر حركية من التطور المتوازي بين الواقعة الشعرية التي تقوم على الكينونة - طبقاً لمقولة (سيزا قاسم) عن بويطيقا - النص المفتوح - و(الصيرورة) التي هي سمة الواقعة السردية المحايثة لها، وهي تشير إلى الحدث أو المناسبة أو الفرضية الشعورية التي أسست للقول الشعري، في نمط من التعبير السردي القائم على النثر بما له من سمة تتمثل في الرؤية بحضورها الذهني، المعلن عن مبررات (تعقلن) الفعل الشعوري وتسوغه.

يدعم هذا أيضاً ما كانت عليه الدراما المسرحية التي استمكن منها الشعر منذ أول نص معلن فيها وإلى ما قبل مائة وثلاثين سنة، حين تعاورها النثر منه.

وهكذا يصبح الشعر المصدر الذي استنبطت منه الفنون القولية - كلها أو معظمها - تكوينها الأدائي اللاحق، وتصبح الرواية المنتهى الذي ذهبت إليه مجالات تشكل كثير منها في اصطفاف جمالي محض إنتاج الحداثة الإبداعي جانبا من مواصفاته.

وفي ذلك التناسغ بين الشعر والرواية تحققت مساحة خصيبة من الانجاز الأدبي، لها اتساعها في الشعر من خلال ما أسماه الدكتور (حاتم الصكر) (الأنماط النوعية والتشكلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة). أما الرواية فقد تهيأ لها ان تستمد من الشعر تحولا هائلا في الرؤية والأدوات السردية وعناصر التشكيل اللغوي والكيفيات التي تصنع للغة الرواية إيقاعها الخاص.

وكما الملحمة التي أصبحت الرواية سميتها المعاصرة تأسست المسرحية على الشعر والسرد منذ تأصيلها البعيد وحتى قريبا من عهد الحداثة الغربية لقد (أضاف (سخيلوس للجوقة ممثلا يشاركها بصوته، ويتفرد عنها بحركات جسده. أما (هنريك ابسن) فقد ذهب بها إلى النثر أداة لغوية للتعبير. وحين تم ذلك وأصبح مرتكزا غالبا على النص المسرحي برزت حالة التجاور الايجابي بين المسرحية والرواية التي كانت تتلمس وجودها حينها في أكثر من اتجاه مذهبي وتجريب فني: رومانسي وواقعي ورمزي وسواها - وكانت المسرحية في محاورة لذلك أيضاً، لتشاركها الرواية في اتساق من الفعل الدرامي والتشخيص المتكئ على فاعلية المشهد وابراز سمات الشخصية ووجودها الحركي وتجسيم المكان - ديكورا وأزياء وإضاءة وألوانا وموسيقى - ولعل تلك جملة من العناصر المهمة التي تركن ذهنية الروائي وثقافته المهنية لتترسمها في إنتاجه الروائي.

عد (هيجل) الموسيقى أعلى مراتب التشكيل الجمالي في الفنون - لما فيها من قيم الارتقاء التجريدي والمخاطبة الذهنية البعيدة عن التجسيد الحسي المباشر في غاياته ودوافعه وموضوعاته - وعبر الاستجابة لهذه الرؤية بشكل من الأشكال تمثل الانفعال التعبيري للفنون القولية البعد الموسيقي في تكويناته التعبيرية واستوعبها لا بوصفها أدائية صوتية تصنعها قيود مفهومية محددة - الوزن والقافية في الشعر مثلا - بل ممارسة جمالية لها أفقها الممتد إلى ما يكتنفه مفهوم الايقاع وهو يتشكل قيما ذات طبيعة هارمونية منسجمة تتمظهر فيما هو أوسع من الصوت، لتبرز في اللون والحركة وتناسب القيم التعبيرية وأنماط تشكيل الشخصية وحركتيها وتساوق العناصر السردية واتساق حضورها. وهو ما أنجزت كثيرا من الأعمال الرواية المتميزة، ذلك الذي تحقق لها من نجاح وقيم إبداع من خلاله.

وإذا كانت الفنون التشكيلية نقيض، الموسيقى لترسيخ قيم التشكل المادي فيها فإن عناصرتكوينها في الكتلة واللون والمساحة والانسجام الذي تتماهى فيه فاعلية الضوء والظل والمنظور المؤسس على قيم خاصة في رؤية التكوينات المختلفة عمقا وأبعاد تشكيل متزامنة بعض ذلك أو كله هو ما يمكن لمقاربتنا أن تشير إليه في الممارسة الروائية وأن تدعو إلى تمثله واستعادته في الرؤية المتأملة للمنجز الروائي. وتبقى (السينما) التي نراها - شخصيا - الأجدر بأن توصف بملحمة العصر الحديث - حتى من الرواية ذاتها - لما فيها من ذلك الانشداد وتماهي عناصر الفاعلية الجمالية متعددة المصادر لغة وفعلا دراميا وتشكيلا مشهديا مفعما بأداء لوني وايقاعي وموسيقى وسواها انها الفن السابع الذي ابتلع، وهضم، وأعاد إنتاج كل الفنون في تكوين بصري وصوتي ذي هيئة فاتنة. لقد أخذت السينما الرواية إلى مساحة منتجها الفني أكثر من أي فن إبداعي آخر. وعبر الرؤية الخلاقة التي لا يمكن إغفالها وهي تستثمر كل ما يحقق لها عالم الخصب الفني، يمكن الإشارة إلى ما حصل عليه الروائيون من السينما مددا يمكن تلمسه في أبعاد رسم المشهد وحركية الشخصيات وايقاعية الحدث مونتاجا وتقطيعا وحدثا راجعا (فلاش باك)، أو استباقا مشهديا.

هكذا وبإيجاز نخشى ان يكون مخلا نضع ما تهيأ لنا من تأملات في تلك التعالقات المثمرة التي تواصلت الرواية من خلالها مع الفنون الإبداعية المختلفة داعين إلى تأمل جاد ومعمق في علاقات الفنون مع بعضها وهي تنجز مشهدا إبداعيا راهنا، لعل الروائي من بين أكثر المتفاعلين معه والمخبرين عن قيمه المنجزة، لندعوه إلى توطيد تجربة أكثر فاعلية وهو يذهب إلى نصه الروائي بريشة الفنان التشكيلي ولغته اللونية، وبالصادح من التوهج الذي يسكن روح الشاعر، وبعين المخرج السينمائي، ومهارة قائد الاوركسترا في الموسيقى الراقية.

كلية اللغات - جامعة صنعاء

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة