تحدثت في آخر المقالة السابقة عن علاقة وشيجة بين مفهوم (المتبقي) عند (لوسركل) الذي كان محور كتابه (عنف اللغة) وبين مفهوم الترسب. ومفهوم الترسب من المفاهيم المنبثة في الفكر الفلسفي والسياسي واللغوي والأدبي. ف(هوسرل) مثلاً يرى أن كل تحليل ظاهراتي هو في جوهره زماني، والمقصود بذلك أنه في جوهره كشف عن تاريخ مترسب. (ينظر موسوعة الفلسفة ج 2 - 542).
وقد استعمل جاميسون Jameson في كتابه (اللاوعي السياسي) هذا المفهوم، وقد فسر التطور المتفاوت لعناصر البنية النصية (من خلال استمرار الأشكال النوعية الماضية في أشكال جديدة من خلال صياغتها من جديد وإعادة تشكيلها، أي من خلال ترسب الأشكال) ويستفيد لوسركل من هذا ليؤكد أن الترسب النوعي يصبح ممكنًا عن طريق الترسب اللغوي؛ إذ (اللغة هي الوسيلة الطبيعية ذات الامتياز في هذه العملية كما يظهر بوضوح في حالة الرواسم أو الاستعارات الميتة التي تقوم بترسيب النظريات العلمية القديمة أو المفهومات الدينية).
ويستثمر لوسركل مقولة الاستباق أو التوسع الهيغلية لتأكيد فكرة المتبقي من خلال فكرة المترسب التاريخي والسياسي؛ حيث اللغة عند هيغل - وحسب تفسير كوجيف - لها خاصية مهمة تكمن في أنها تمتلك القدرة على إدامة الخطأ. وبذلك تكون اللغة تستبق الحقيقة أو تتوقعها. يقول لوسركل شارحًا فكرة إدامة الخطأ: (فأنا أنظر إلى ساعتي وأرى أنها العاشرة تمامًا ثم أقول: بصوت عال إنها العاشرة، وبذلك يكون قولي مخطئًا، حيث تكون الساعة عندئذ قد أصبحت العاشرة وثلاثين ثانية. وإذا كتبت الجملة سيكون الخطأ أكثر ظهورًا وأطول دوامًا، ولكن هذه الجملة المكتوبة ستكون صحيحة مرتين كل أربع وعشرين ساعة.. وهكذا فإن للغة مميزتين مهمتين - أو بالأحرى جانبين للمميزة نفسها - فهي تمكن الخطأ من الاستمرار، وبذلك تكون المسوخ اللغوية (كالاستعارات مثلا) دائمًا قابلة للحياة، وهذا ما يميزها عن المسوخ البيولوجية التي تقوم الطبيعة الأم بإزالتها سريعًا. وهي (أي اللغة) تسمح له (للخطأ) بالبقاء طويلاً بما يكفي لكي يصبح حقيقة، وبعبارة أخرى تستبق اللغة الحقيقة أو تتوقعها).
هذه الحركة المتنقلة، والفوضوية، أو حسب عبارتي أنا التي أصف بها الظل زئبقية، وهي من أبرز خصائص الظل ومن أبرز ما يحدد هويته. وإذا كانت اللغة حسب لوسركل تحتفظ بجانبها الظلي المبدع والفوضوي والمخترق، واللغة حسب هيجل تمتلك القدرة على إدامة الخطأ واستباق الحقيقة، فإن في ذلك ما يتقاطع مع الظل ويتفق معه في الآن نفسه. وهذا الموضوع يستغرق الحديث فيه مساحة تضيق عنها هذه الزاوية، وحسبي في هذه المقالة بجزئيها الإشارة إلى هذه الالتقاءات والتشابهات سواء في منطلق الفكرة أو في مؤداها ونتيجتها.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
rafef_fa@maktoob.com