Culture Magazine Thursday  28/05/2009 G Issue 285
فضاءات
الخميس 4 ,جمادى الآخر 1430   العدد  285
البوطي وانتحاره الشعري
في برميل القلوب الميتة
عبدالله آل ملحم

 

لكل لغة معجم تستمد منه مفرداتها، لغة العلم ليست كلغة الأدب، ولغة الأدب ليست ضربا واحدا، الشعر له لغة ليست كلغة السرد، ولغة السرد الروائي ليست كلغة السرد القصصي، ولغة الشعر العمودي ليست كلغة قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، ثمة بصمة لكل لغة لا تشاركها فيها لغة أخرى وإن تشابهت اللغات، القواسم المشتركة لكل لغة أشبه بملامح البشر، قد نرى لكل إنسان ما لسائر الخلق من عينين وأذنين وفم وأنف، ومع ذلك فهذا يختلف عن ذاك، والثاني لا يشبه الثالث وإن حملوا جميعا ذات الجوارح والقسمات، والإطار العام الذي تأتلف فيه تلك الملامح هو ذات الأسلوب الذي يميز كل لغة عن لغة، ويجعل لكل منها الصفة والهوية والشخصية التي تتمايز بها اللغات. ومن هنا كانت المباشرة المذمومة في لغة الشعر والسرد هي ذاتها المطلوبة في اللغة القانونية والإدارية، ولغة الكناية والمجاز المرفوضة في اللغة القانونية والإدارية هي ذات اللغة المطلوبة في لغة الأدب، وفي سياق اللغات الجادة التي لم تُسلم قيادها للعب البلاغة اللفظية، تجيء لغة الاقتصاد بكلمات متفردة لا تشاركها فيها لغة من خارج السياق.

من تلك المفردات المُبيئة في نسق نوعي خاص كلمة (برميل) اللصيقة بعالم النفط أكثر من أي عالم آخر، والممتنعة عن التجانس المرن مع كثير من سياقات اللغة التي لا تتقبل ما يفرض عليها من خارج سياقها، وربما أورث إقحامها على سياق مغاير نفورا صادما يمجه الذوق، تماما كما المجازفة التي أقدم عليها الدكتور سليمان البوطي حين اصطفى كلمة (برميل) لتكون عنوانا لباكورة إصداره الشعري الأول، الذي آثر تسميته (برميل القلوب الميتة) كلمة (برميل) تبرز بإزاء جملة (القلوب الميتة) الواردة في سياق مجازي هو الأليق بموضوعية ما وضعت له، وهي كلمة اقتصادية بامتياز، لا تنفك تُذكر بصورة يومية كلما ذكرت أسعار النفط، لدى الحديث عن ارتفاع برميل النفط أو انخفاضه، وإذا فتشنا عن استخدام آخر لها ألفيناها كامنة في تلافيف لغتنا المحكية، ضمن وجباتنا الشعبية كلما ذكرت أصناف الأرز الكامل الدسم : كالبخاري والمضغوط والمضبي والحنيذ... وفي هذا السياق يجيء برميل المندي بوصفه قاسما مشتركا ل(برميل القلوب الميتة)، وبالمناسبة فبرميل المندي من ألطف الاستخدامات البرميلية، أما الأسوأ فهو ما يقرأ لدى ذكره مقترنا ببرميل القمامة وبرميل الزبالة ونحوها من العبارات غير الشعرية بل وغير الأدبية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل هذه التسمية المُرتكسة ما بين الزيوت والقمائم جاءت لتسمو بمفردة (البرميل) أم إنه سوء اختيار أو انتحار ليس إلا؟!

الدكتور سليمان البوطي السوري الجنسية يعتز بهذه التسمية كما حدثني غير مرة، فهل نقول عاشت الأسامي يا دكتور، ومع ذلك فهو يرفض تفسيرها، تاركا مهمة تأويلها للنقد والنقاد وليس له وهنا المشكلة الكبرى، أو أم المشاكل التي يرزأ بها القراء عادة، لا أعني عامة القراء الذين فرضوا على أنفسهم القطيعة الثقافية مع آداب لغتهم، بل أعني المثقفين المتذوقين لفنون الأدب نثره وشعره، أولئك الذين فُرضت القطيعة عليهم من لدن كتاب النص الجديد الموغل في الغموض والغرائبية بحثا عن تفرد غير مسبوق، وما أراه حيال هذه التسمية أنها جناية من الكاتب على ما كتب، هي أشبه بأعرابي متحضر يعيش الحياة العصرية بكل تجلياتها، وحين رزق بمولود أبى إلا أن يسميه خنفس أو كلب أو براز!

ما كتبه البوطي في الشطر الأول من ( ديوانه) لا يمكن قراءته وإن أمكنت تهجيته، هو كلام هلامي مفتقد للدهشة والجاذبية التي يُنكه بها الشعراء نصوصهم الشعرية، تلك التي وإن لم تفهم معانيها الغائرة إلا إن بالإمكان الاستمتاع بصياغتها المبتكرة والإحساس بها، تماما كما كل لحن جميل تسمعه فيعجبك نغمه دون أن تفهم نص الأغنية المؤدى بها، أما ما كتبه البوطي فهو شيء آخر لا يدخل في هذا التصنيف، كما لا أحسبه يدخل في أي تصنيف آخر، هذا ما يتعلق بالشطر الأول من الديوان، أما الشطر الثاني فهو أشبه بنص قصصي ولكنه غير قصصي، هو مسخ من الكلام لا إلى الشعر ينسب ولا على النثر يحسب، ولا يمكن أن يعد أجناسية جديدة متولدة من إبداع جديد، لأن أهم شرط لما يمكن أن يعد من ذلك هو الإدهاش والجاذبية اللذان يتركان القارئ مأسورا لجماليات النص الجديد، وما كتبه البوطي شيء آخر لا يدخل في ذلك ولا يقاربه !

الدكتور بسيم عبدالعظيم أستاذ الأدب والنقد بكلية البنات بالأحساء هو من تولى طباعة هذا الديوان خدمة لصديقه البوطي، وهما وآخرون من الأشقاء العرب في الأحساء يمثلون الكوكبة المثقفة لأوطانهم في المحافظة، ولهم في مشهدنا الثقافي مشاركة يلحظها المتابع، وطباعة الديوان أو المجموعة أو الإصدار... أو ما لست أدري ما أسميه كانت في مصر المحروسة، حيث تعود الدكتور بسيم أن يطبع كتبه، وفي تقديمه الملحق بذيل الديوان يصف الدكتور بسيم معاناته مع هذين النصين، حين عهد لأبنيه المهندس أحمد والدكتور محمد أن يطبع كل منهما واحدا من نصوص الديوان المشتمل على نصين لا غير، يقول: (وسألتهما عما فهماه - من النصين- فلم يحيرا جوابا)، وبالطبع فقد سألهما لا لاستثنائية ما سيجبان به بل لكونهما يمثلان عينة للقارئ العام الذي يشكو عدم التواصل مع كثير مما ينشر من نصوص شعرية، من جراء القطيعة المفروضة عليه من كتاب النص الجديد، وأحسبه أيضا سألهما بعد أن عجز هو عن فهم ما حملهما على صفه وطباعته.

ويضيف الدكتور بسيم فيقول: بعدئذ لجأت إلى صديقي الدكتور محمد الجزار الحاصل على الدكتوراة في نقد شعر الحداثة، فلم يفهم من النصين شيئا، وكتب يقول: (العزيز د. بسيم.. لا أخون نفسي، ولم أخنها من قبل.. معذرة)، فلما أخبر صديقه البوطي بذلك ضحك وقال أطبعهما بغير تقديم، أكان ضحك التجاوز، أم ضحك السخرية، أم ضحك كالبكاء ذاك الذي أطلقه البوطي وهو يوعز لصاحبه ببدء الطباعة على بركة الله، وهنا شرع بسيم في طباعة تلك الشفرة التي ربما كانت له كرسالة طرفة إلى قاتله وإن اختلفت أدوات القتل.

الشاعر المصري عبدالرحمن البجاوي كان واحد ممن استُجدوا للتقديم لهذين النصين، ولعله من باب المجاملة ليس إلا .. كتب كلمة إعجاب حول برميل البوطي، أحسبها كُتبت لهذا الغرض وإن كان ظاهرها ينضح بفائق الثناء، مشكلة بعض المثقفين أنه يقول كل شيء عن أي شيء ولو لم يكن بغير معنى، ولو كان المقول فيه منبتا من دوحة الأدب، ولو لم تكن له شهادة ميلاد شعرية تؤكد هويته الإبداعية، ولو لم يكن ذا قيمة تستحق الوقت المُنفق لقراءته، وحتى لا يقولون لا نعرف، أو لم نفهم، فهم يقولون أي كلام المهم أن يقولوا وكفى.

في مقدمة البجاوي التي يفترض أنها دبجت للثناء على النصين المذكورين ما هو أمرُ من الذم وأقذع من الهجاء، وفيها يقول المُقدم في المُقدم له: (وأنا أغبط الدكتور سليمان على أنه مزج الشعر بالنثر، والتاريخ بالجغرافيا، والجبر بالهندسة، وعمل منها كوكتيلا يكشف عن الرغبة الكامنة في الإصلاح والتغيير) وفات البجاوي بالطبع أن يذكر أنه مزج الطهي بالاقتصاد حين ذكر مفردة (البرميل) بوصفها قاسما مشتركا بين برميل المندي وبرميل برنت، ومن ثم برميل القمامة حيث تستقر فضلات هذه الوجبة الدسمة !

أيضا من مُزاوجات البوطي البديعة ما بين التاريخ والبيئة البحرية من جهة، والفلسفة والمحاصيل الزراعية من جهة أخرى، قوله في نص (زجاج) ص5 :(أحواض السمك حاكورة من زجاج (مكتبة من الكرنب) والفاصولية الحب طنجرة من مؤلفات أفلاطون (والشيخ الرئيس والطبق الرئيس رأس المال) ببوق سيارته البويك موديل 1989 استطاع قضاء ليلة حمراء معها)، هكذا وبما يشبه عشاء المسحراتي الذي يجمع الحلو بالمالح والمر مع الحامض في وعاء واحد -كما يقول مواطنه الشيخ علي الطنطاوي- يمضي البوطي في كتابة نَصيه وهو غارق في الضحك على أولئك الذين قرؤوا ولم يفهموا زبور سليمان.

almol7em@hotmail.com الأحساء

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة