(حيث يكون الهو يكون الأنا)
سيجموند فرويد
المأزق السردي بين الظاهرة التاريخية والأيديولوجيات النشطة:
يعتبر السرد العربي المعاصر معادلاً موضوعياً للشعر في الثقافة العربية التقليدية ويطرح نفسه كديوان جديد للعرب حيث تقدم لنا الأعمال السردية نتاجاً لخبرات ذاتية تكونت عبر العلاقة بين البيئة والشخصية الإبداعية ليعكس العمل السردي من خلال تجليات فنية:
* الظاهرة التاريخية.
* طابع الحياة الاجتماعية.
* الإيديولوجيات النشطة.
* القيم الروحية والجمالية والفنية السائدة.
* التطلعات الروحية والجمالية والفنية.
القيم السائدة:
تتفاوت فاعلية الحدث داخل السرد السعودي الشاب ما بين أفعال تستند إلى دعاوى أخلاقية وأفعال في إطار موقف لا أخلاقي - من منظور المجتمع - وهي في حقيقتها انزياح عن الخطاب السائد لأنها باحثة عن الفعل المادي لتحقيق ذاتها بكافة الأشكال والسبل مع ملاحظة أن الفعل المؤدي للصراع في علم النفس طبقاً للمفاهيم الدرامية يؤكد أن:
* أي تكيف مع المحيط ليس صراعاً.
* أي تعلم ونضج ليس صراعاً.
* التطور الجسمي والحركي ليس صراعاً.
* تطور الإدراك ليس صراعاً.
* تطور اللغة الداخلية وظاهرة التذكر FLASH BACK ليس صراعاً.
لذلك يقدم لنا السرد السعودي شخصيات مستلبة قليلة الود ضعيفة الشعور بالهوية لا تحقق تكيفاً في المجتمع التكنولوجي حيث العلاقة مباشرة بالجماد والأفكار المجردة لذلك، فالبعد الإيجابي الوحيد لشخصيات السرد السعودي متحقق فقط في العودة للطبيعي.
ولا يقدم هذا السرد صورة إيجابية للذكر، ولا تتعاطف مع هموم الرجل إلا في أضيق الحدود، فالشخصيات الذكورية نماذج فاعلة في الشر عاجزة عن إيجابية الفعل الخير لذلك لا تتلامس الكتابة مع الخبرة الذاتية التي هي عامل شديد الأهمية والتأثير في الإبداع، ففي رواية (القارورة) للكاتب يوسف المحيميد يقدم لنا الشخصيات الذكور كنماذج مثل الشخصية المتطرفة- محمد الساهي الذي يقع ضحية الفهم الخاطئ للدين، ورجال المرور، إضافة إلى أن المرأة في هذه الرواية تتحمل صراعات الكبار، وأخطاء الرجال مثال على ذلك أخوها الضابط، كما جسد ثقافة المجتمع الماضوية والمتناقضة في آن معاً.
وفي روايته هذه اختار المحيميد بيئة طبيعية رغم أنها ليست واقعية، وأراد أن يقوم بتأريخ أدبي لمرحلة يرى أنها مهمة، وأنجز ذلك عبر سلسلة أحداث بطلتها أنثى، وتماهى مع شخصيتها الأنثوية لرصد حركة المجتمع في زمن معين، وإظهار ما يمكن أن تواجهه امرأة صاحبة قرار وفعل تحرري في مجتمع سمته المحافظة، وحاول إسقاط ثقافة مجتمع بأكمله على هذه المرأة، واقتحم بشجاعة كبيرة الكثير من الموضوعات المسكوت عنها في المجتمع، وبعض عناصر البنية المجتمعية غير المألوفة مثل تفاصيل سجون النساء، وكشف عن معاناة المرأة في مؤسسات العمل، وهو بذلك يقف على نفس أرضية كتاب آخرين تناولوا نفس المساحة في أعمالهم السردية مثل (سعد الدوسري، وإبراهيم الخضير) ووضع على المحك العنصر الأهم المثير للجدل في المجتمع وهو (المرأة) ورغم وجود بعض الثغرات الفنية إلا أن الرواية استطاعت تجسيد التناقض الثقافي في المجتمع، فبطلة الرواية (منيرة الساهي) وقعت ضحية التناقض الثقافي والزيف والخداع؛ لذلك سيبقى هذا العمل في ذاكرة السرد لأنه اشتمل على قضيتين ساخنتين حرب الخليج، والتأريخ للمجتمع السعودي وقتها من خلال سرد حقيقي ضد النص الرسمي السائد، وغير معني بإصدار الأحكام الأخلاقية على الشخصيات.
ويشير رفض الكاتب العلاقات الحيوية والحياتية اليومية - ككل الرومانسيين - إلى تضخم ذاته الإبداعية.. هذا التضخم في الحس الإبداعي في مواجهة الخبرة الذاتية المحدودة بالعالم ككل أدى إلى تراجع القدرة على الرؤية الموضوعية للعلاقات السائدة في الزمن القصصي ومعادله الواقعي مع ملاحظة أنه من السذاجة التعامل مع الإبداع باعتباره انعكاساً عاطفياً للتجارب الشخصية بل هو نتاج معقد لهذه التجارب بعد مرورها بعمليات صهر روحية وعقلية معقدة.
الهوية بين الممكن والمستحيل:
لأن الإبداع يشكل انزياحاً عن الخطاب التقليدي، فكل سرد يستبطن رغبة للتصادم مع كافة أشكال التسلط، بمقدار ما يحمل من رغبة تشكيل هوية فردية أو جمعية في نص، ولأن التاريخ يتجسد في صيغ سردية واقعية ومتخيلة، يعكس السرد التاريخ والأماكن والأحداث سواء بشكل قصدي أو عفوي لتشكيل هذه الهوية الفردية أو الجمعية.
ويعكس السرد السعودي الشاب مأزق تطلعات ورغبات جيل شاب يطمح إلى استكمال هوية ثقافية جديدة في مواجهة المؤسسة المجتمعية، تتجلى في شكل أعراف مجتمعية شديدة السطوة، لذلك فإن شخصيات السرد السعودي تكاد تكون غير متكيفة اجتماعياً، وطبقاً للمفاهيم الفرويدية فإن المتكيف في مجتمع مريض لابد أن يكون مريضاً، وحين نعكس هذا المفهوم فإن عدم تكيف أبطال السرد مع المجتمع المريض في ظرف اجتماعي متحول تعيشه يعني أنها شخصيات سوية.
ويتعامل السرد السعودي الشاب بلهجة نقدية هجائية تعري الهوية، بهدف تفكيك ثقافة قارة ذات أبعاد ضاغطة لا يستطيع منها فكاكاً، لتبرز في المقابل الكتابة السردية شديدة الإيجاز والقصر التي تعبر عن هوية المبدع المعذبة في الزمان والمكان التي تتصارع مع نسق مجتمعي مركزي صارم يمثل وحدة ثقافية شمولية، لذلك يميل المبدعون الجدد للتعامل مع السرد باعتباره حالة تعبيرية متصلة بذواتهم بشكل يصنع تماهياً مع حالة الشعر.
وإذا ما قرأنا السرد السعودي وحاولنا فهمه بالتماس مع لا وعي المبدع، يتبين أن السرد يجسد، بوعي أو لا وعي الإقليمية، ولا يراهن كثيراً على الذاتي، نموذج واضح على ذلك كتابات مميزة وذات ذائقة إبداعية للكاتب (عبدون) وهو اسم مستعار لكاتب يكتب بلهجة مغرقة في محليتها لأهل منطقة القصيم وسط منطقة نجد.
كما تلتبس هوية من ينتمون لجذور غير حضرية ويعيشون في المدن فيندفعون لتمجيد الإرث الثقافي للهوية المفقودة مقابل سطوة المدن، ويبدو ذلك كأوضح ما يكون في رواية عبد الحفيظ الشمري (جرف الخفايا) حيث يعلق على ذلك أحد النقاد بقوله:
يتخذ الكاتب موقفاً نقدياً من الثقافتين العربية والإسلامية، يمكن نسبته إلى موجة ما بعد الحداثة، يفكك من خلاله هاتين الثقافتين منطلقاً من حنين ورغبة في العودة إلى الريفي الفطري (تلعة الحمض) في مواجهة الحضري المدني (جرف الخفايا) بعدما هرب من بساطة وتخلف الأول ليكتوي بالثاني معانياً النوستالجيا المؤرقة:
(لم يكن ثمة اتفاق مسبق بين المدينة والفلاة على توزيع أدوارها، فكلما جاد الريف بالبهاء والجمال والدعة، انعكس لا محالة على المدينة التي تتاخمه) ص 37
ويرى الكاتب في الفطري نوعا من الفضل حتى وإن انتقده، ويعتبر الريف هو الأصل، لذلك يبدو رغم انتقاده له راسخاً في الضمير لا يتحدث عنه السارد إلا قليلاً باعتباره من البديهيات والأصول؛ حتى وإن اختلف مع تفاصيل الحياة فيه:
(لست مع البداوة، ولم أتأقلم مع حياة المدينة) ص 23
بينما الحضري طارئ موجع ومؤلم، يستوجب التوصيف والنقد، فيمتلئ السرد بوصف المكان القاسي.. المدينة المسخ.. جرف الخفايا:
(المدينة العجيبة ذات الجبال العالية برؤوسها المدببة، والأودية العميقة، والملامح الكالحة، والروائح المقززة عند الأطراف، الضاجة بالناس في الأطراف الأخرى، الصاخبة في الوسط، المتضورة جوعاً في الطرف الآخر) ص 63
(المدينة بيوتها تتراءى أمامي بعالمين هما القبح والبهاء) ص 131
القبح عفي جداً، والبهاء مريض) ص 133
ويخالف هذا الانحياز إلى الجمعي التراثي مفهوم السرد الحديث الذي ينأى عن العمومية، ويكرس الرغبة الفردية في التعبير، والكتابة السريعة التي تتوافق مع رغبة الكاتب في تأكيد الخاص بفعل إبداعي متمرد يرفض التصالح مع الشمولية، ويبدو هذا الموقف متناصاً بشكل كبير مع تجارب أخرى لعل من أبرزها تجربة الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه (مدينة بلا قلب) الذي يصف فيه القاهرة بقسوة شرسة قبل حوالي النصف قرن.
الكتابة النسائية: نموذج رجاء الصانع ومحاكمة بنات الرياض:
ما حازت عليه رواية بنات الرياض للكاتبة رجاء الصانع من شهرة جاء من خرق المحظور الاجتماعي المتعارف على السكوت عنه، فقدمت الروائية ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً صورة واضحة عن فتيات قريبات منها سناً تدرك همومهن من حيث تقييد الحرية، ورفض أفكارهن الجديدة، واستهجان المجتمع لهن، وهي بذلك تقدم حقيقة مخفية بين طيات المجتمع لا ترضي من يغضون الطرف، ويزعجهم توصيف مشكلات إنسانية نسائية بتوصيف نسائي يقرر أن معاناتهن في الحياة ناتجة عن سيادة ثقافة ذكورية إقصائية قاسية من وجهة نظرهن، فلم تقف الكاتبة على الحياد، انطلاقاً من موقف نسوي feminism يرى أن المجتمعات تمارس إقصاء وتهميش النساء، ويعتبر المرأة أقلية في حالته المتطرفة، مما يجعل الرواية مُعبرا جيدا عن جيل من النساء مختلف في أفكاره وأدواته.
لقد قدمت الكاتبة تجربة روائية تتسم بالبساطة الفنية، لم تتكلف في كتابتها، واستخدمت لغة بسيطة جداً، قدمت بها تجربتها الإنسانية ومعلوماتها المتاحة، بأسلوب مشوق بعدما أدركت أن حشد عذابات أربع نسوة لن يكون كافياً لإثارة الاهتمام في ثقافة عربية بطريركية، تعودت أن تسمع هذا النواح المستهلك عن قهر المرأة والظلم الاجتماعي وجور العادات والتقاليد.. الخ، وأن أذن شهريار تبلدت من سماع اسطوانة الشكوى المشروخة، فابتكرت حيلتها الفنية الخاصة لتمرر حكايتها في حبكة تشويق تتمحور حول هوية الراوية، وصنع مسافة موضوعية بين الراوية والشخصيات، والتوصل إلى إيقاع مخفف يعادل الوطأة الميلودرامية لوقائع الرواية من خلال كشف المستور، كما هو متوقع إزاء عمل يقترب من التابو الاجتماعي (عالم المرأة) وعرضت الكاتبة البيئة الاجتماعية والأنثربولوجية التي تجرى فيها الأحداث من خلال شخصيات ينتمون لشريحة كومبرادور، وليسوا من نبلاء المجتمع لهم صفات وأخلاق برجوازية، ولأن الكاتبة تنتمي بشكل من الأشكال لهذه الشريحة، أسعفتها خبرتها الذاتية بتفاصيله غنية ساهمت في دعم تجربتها الإبداعية بالكثير من التفاصيل الدقيقة عن التكوين المادي والمعنوي والعقلي لأبناء هذه الشريحة التي يمكن فهمها في سياق الانتماء للجزء المكوّن للكل، من خلال خطاب حجازي الهوية، يبرز معرفة ذات هوية حجازية، ويحتفي بالشخصية ذاتها.
واتفق النقاد الجادون على أن الرواية محكمة الصنع، مكتوبة بهندسة مقصودة، موقعها الكون الافتراضي virtual cyber كأرضية للسرد، واختارت تقنية مجموعات البريد الإلكتروني لتحكم بناء هذا العالم فلا يخرج عن سيطرتها، واختارت عدداً محدوداً من الشخصيات صنعتها بشكل يكاد يكون نمطياً، عمقته بالتوصيف الإنساني للشخصيات، ونقلها من حالة إلى حالة مغايرة، وعرض خطايا الرجال كسبب للمصائب التي تصيب النسوة، عبر شكل الإيميل الذي قام بدور حكواتي مبتكر ينتظره جمهوره كل يوم جمعة، واستخدمت لغة سهلة تتفق مع الشكل وطعمتها بألفاظ عامية، وأخرى من لهجات عربية، واللغة الإنجليزية أيضاً، وقدمت صوراً بلاغية مبتكرة كقولها ( حتى تنغمس الشمس في كوب البحر) إضافة إلى براعتها النسوية في وصف الأماكن، ولم تحرص على تقديم بطل نموذجي بل وزعت البطولة بالتساوي بين شخصيات روايتها وجعلت البطل الحقيقي هو شعور البطلات بالحب وفشلهن و نجاح واحدة فقط منهن في علاقتها، في أسلوب برعت في تصوير المشاعر الإنسانية من خلاله.
المكان.. الحنين القاتل
تشكل بنية المكان للشخصيات والأحداث والأزمنة خلفية عامة باعتبارها قوى منتجة للأحداث، ويلعب المكّون الصحراوي كهوية لها سحرية النوستاليجيا دوراً عجائبياً في إرباك الرغبة في التحرر وبناء هوية جديدة في مواجهة الخضوع لفضاء المكان والتاريخ والثقافة، فبعدما أعلن د. سعد البازعي عن (ثقافة الصحراء) توالت الخطابات المتباينة بين القبول والرفض والحوار، وتحليل السرد السعودي يوضح انحيازاً تاماً وجاداً للفطري دون تفسير أو توضيح لمبررات هذا الانتماء، كما لو كان أمراً منطقياً وموضوعياً مما يمكن اعتباره انحيازاً نوستالجيا لزمن الطفولة والشباب بما يحملانه من بكارة ودهشة اكتشاف العالم، لذلك يطرح السرد السعودي المفاهيم الأخلاقية والدينية - الإيجابي منها والسلبي - كأيديولوجيات نشطة، ويأخذ منها موقفاً انتقائياً، من خلال طرح يحلم بتأصيلها على أرض الواقع لمواجهة الاستلاب الذي تعاني منه الشخصيات - التي تعادل قيما نمطية - مما يسلبها وجودها الحيوي في مقابل وجودها الفني القريب من الرمزية - سواء الشخصيات السلبية أو الإيجابية - دون التعرض لفروق الظاهرة وطبيعة التحول التاريخي الذي أدى إلى تركيز الحياة على الثروة وإهمال الفرد، وإدراك المبدع أن الحصول على تغيير ذو معنى، يستلزم نقداً جذرياً للمجتمع وقيمه ومبادئه الظاهرة والمستترة، كما يتطلب شجاعة لقطع علاقات مريحة واتخاذ قرار جريء بالتحول إلى أقلية.
الضمير الجمعي.. سجن المبدعين
إن أبرز ما يمكننا الخروج به من تحليل عبر هذا الاستقراء هو الطبيعة الكامنة للمفاهيم«......» في الضمير الجمعي، وخروج هذا المخزون ليتشكل انحيازاً لقيم بعينها في حركة مد وجزر متفاوتة تختلف طبقاً لمجمل المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية وتتوازى معها، وتشكل مرتكزاً يتكئ عليه الفرد حين تتداخل الأمور، ويفتقد النور في آخر النفق فتبرز الحاجة لدور الدين كدعم بديل للإنجاز المادي المفتقد في أرض الواقع.