هذه الكلمات المستوحاة من نص «فصل في الجحيم» للشاعر الفرنسي آرثر رامبو تختصر روح مهرجان جبلة لثقافي الثالث الذي انعقد من 20 إلى 23-7-2007، هذا النص الذي قدم ممسرحاً ضمن فعاليات المهرجان، فالحب يصنع المعجزات، حب الفن والأدب والجمال وحب أهل هذه المدينة لمدينتهم التي تقع على الساحل السوري إلى الجنوب من مدينة اللاذقية حوالي 30 كيلو متراً.
من هذه البقعة الساحلية انطلق مهرجان جبلة الثقافي الأول عام 2004 بجهود وتنظيم جمعية العاديات في جبلة وهي فرع من جمعية العاديات في حلب وهي جمعية أهلية همّها الشأن الثقافي بكل أشكاله بعيداً عن صخب العاصمة والمدن الكبرى.
وفي عام 2005 انعقد المهرجان الثاني، أما في العام 2006 فقد ألغي المهرجان بسبب العدوان الإسرائيلي على لبنان ليعود بدورته الثالثة هذا العام بكل نشاطه وألقه وحيويته.
من هذه البقعة الساحلية خرجت أسماء كان لها دورٌ أساسيٌ في تشكيل خريطة الثقافة السورية، نستذكر المسرحي سعد الله ونوس، وفي الرواية حيدر حيدر ونبيل سليمان، وفي الشعر بدوي الجبل ونديم محمد إلى الشاعر الكبير أدونيس، الذي كان لحضوره الآسر طيلة أيام المهرجان وإشرافه ودعمه لانطلاقته منذ دورته الأولى ألقاً وسحراً خاصاً للمهرجان.
على مدى أربعة أيام وعلى مدرج جبلة الأثري الروماني الذي احتضن نشاطات هذه الدورة كان حاضراً الشعر والنقد والفن التشكيلي والغناء والموسيقا والدراما والسينما والكتاب تحت مظلة الحب.
ففي اليوم الأول تم افتتاح مبنى مديرية آثار جبل الواقع في السرايا القديمة، ويضم مخبراً لترميم القطع الأثرية وقاعة محاضرات ومكتبة، ثم تم افتتاح تل تويني وهو تل أثري قريب من جبلة حيث كان هذا التل مركز مدينة في الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد، وقد عاصر ممالك مهمة مثل مملكة ماري ومملكة أوغاريت، وقد تم وضع هذا التل في نطاق الاستثمار السياحي بعد الكشف عن سويات سكنية ولقى أثرية من عصر البرونز إضافة إلى مدفنين ضخمين، وقد تم رصف طرقات وممرات في تل تويني كمسارات للزوار.
وتم افتتاح المعالم الأثرية المكتشفة في مدرج جبلة، بجهود دائرة آثار جبلة وبعثة التنقيب السورية البلجيكية المشتركة.
يعتبر مسرح جبلة الأثري من أهم وأجمل المسارح التي خلفها أباطرة روما السوريون وأكثرها محافظة على معالمه الأصلية، وقد شيد في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلاديين، أثناء فترة حكم الإمبراطور سبتيموس سيفيروس مع زوجته جوليا دومنا الحمصية، وانتهاء بالإمبراطور فيليب العربي، حول الصليبيون المسرح إلى قلعة تم تسويرها كما بنى معاوية بن أبي سفيان حصناً خلف الحصن الروماني القديم، وقد استخدم الحصن أيام البيزنطيين وفي العهود الصليبية حتى العهود المتأخرة.
كان مسرح جبلة بحال جيدة عام 1890 ولكن حالته تدهورت بعد ذلك حتى استقلال سورية حيث بوشر في الكشف عنه من جديد عام 1950، يتألف المسرح من مدرج دائري قطره 90 متراً، ويقدر بأنه كان يستوعب في حالته الأصلية نحو عشرة آلاف متفرج.
وبعد إهمال المدرج لأكثر من 25 عاماً وبعد أن كان حصناً للمعارك والحروب على مدى قرون عاد ليقوم بدوره الأساسي في احتضان ونشر الثقافة والفن، فكان مهرجان جبلة الثقافي وبجهود ونشاط جمعية العاديات وبتبرعات فردية بعيداً عن المصلحة الشخصية وبعيداً عن دعم المؤسسات الحكومية التي تحاول أن تجير كل عمل ثقافي لصالحها.
بعد ذلك تم افتتاح المعارض في الرواق الداخلي لمدرج جبلة، ففي الفن التشكيلي شارك كل من الفنانين أحمد معلا وإدوار شهدا وزهير دباغ وعبد القادر عزوز وغسان نعنع ونذير نبعة ونزار صابور بعدد من اللوحات الفنية بأساليب وموضوعات متنوعة.
وقدم الفنان يوسف بدران تشكيلات زخرفية إسلامية، وبول صابور قدم عدداً من الأعمال الفنية على طريقة الإعادة والتدوير، باستخدام مواد متنوعة مهملة من الخشب والمعدن والورق، أما الفنان محمد صالح فقد استخدم الجرار الفخارية بأحجام وأشكال مختلفة مزينة بالخيش كمادة أولية ملونة وبتشكيلات خاصة.
وتم افتتاح معرض الكتاب الذي تنظمه دار بدايات، واحتوى المعرض على كتب وعناوين في حقول معرفية متنوعة كالرواية والشعر والنقد والفكر والفلسفة والمثيولوجيا، حيث اشترك في المعرض عدة دور نشر منها دار الجمل ودار ورد ودار كنعان ودار قدمس ودار حوران وغيرها.
بعد ذلك توجه الجمهور إلى المدرج لافتتاح المهرجان، وقد ألقى الدكتور علي القيم معاون وزير الثقافة كلمة راعي الاحتفال، وألقى الدكتور بسام جاموس المدير العام للآثار والمتاحف كلمة تحدث فيها عن أهمية مدرج جبلة ودوره في احتضان الفن والثقافة، ولابد هنا من الإشارة إلى الجهود الكبيرة التي بذلتها مديرية الآثار في تسريع عمليات الحفر والاكتشاف في المدرج ليصبح جاهزاً لاحتضان المهرجان في الموعد المحدد.
ثم ألقى الأستاذ جهاد جديد رئيس جمعية العاديات كلمة اللجنة المنظمة مرحباً بالحضور، وأثنى على جهود أبناء المدينة التي لولاها لما قام المهرجان.
في عمل رائع، وكشكل من أشكال التواصل بين الشعر والجمهور قدمت الفنانة المتألقة حلا عمران نصاً ممسرحاً هو «فصل في الجحيم» للشاعر الفرنسي آرثر رامبو، وبتوقيع المخرجة أمل عمران، استطاعت من خلاله الغوص في اللغة الشعرية المكثفة ومن خلال الجسد المتفاعل صعوداً وهبوطاً، فرحاً ويأساً على إيقاع الفنان طارق فحام.
هي محاولة جديرة بالاهتمام لتقديم الشعر بطريقة درامية في تآلف أخاذ أبدعت الفنانة حلا عمران في توصيله من خلال حركة الجسد، وإعداد وترجمة رائعة لنص رامبو الذي يقوم على اللعب بالكلمات والحروف.
وانتهى اليوم الأول بعرض فيلم سينمائي للمخرج المصري خيري بشارة هو «أيس كريم في جليم» عن قصة للكاتب محمد المنسي قنديل، يحكي الفيلم قصة شاب موهوب يبحث عن فرصة لإثبات موهبته في الغناء في عالم يطحنه الفقر، ومظاهر الحياة السطحية في عالم من الوجبات السريعة.
في اليوم الثاني عقدت ندوة حوار في رواق المدرج مع المخرج خيري بشارة، وأدارت الندوة الروائية سمر يزبك، وقد تحدث المخرج خيري بشارة عن حياته وتجربته السينمائية وتحدث عن علاقة الفن بالأدب، وذلك رداً على أسئلة الحضور.
وفي بلد الشعر جبلة لابد من حضور الشعر، وكان ذلك من خلال استماع الجمهور إلى مجموعة من الشعراء في أمسيتين منفصلتين.
وقد شارك في الأمسية الأولى الشاعرة خلود زغيّر وعابد إسماعيل وأحمد اسكندر سليمان من سورية، وجاء من لبنان الشاعر شوقي بزيع الذي تألق في قصيدة قمصان يوسف.
أما في الأمسية الثانية فقد شارك بها الشاعر عبد المنعم رمضان من مصر وشوقي بغدادي من سورية وعلي حبش من العراق، في حين غاب من الشعراء الذين كان من المفترض مشاركتهم (حسب البرنامج) وهم عناية جابر من لبنان ومريد البرغوثي من فلسطين.
وقد تنوعت القصائد في مستواها الفني وبنيتها ومدارسها بحسب انتماءات الشعراء الفنية وخبرتهم وتجاربهم.
إضافة إلى المخرج خيري بشارة حضر المخرج السينمائي السوري محمد ملص بفيلمه الجديد القديم «باب المقام» فعلى الرغم من أنه أنتج قبل عامين فحتى هذه اللحظة لم يعرض جماهيرياً وهذا هو العرض الأول له خارج دمشق.
والفيلم منذ بدايته فجر خلافاً حاداً بين المخرج محمد ملص والروائي خالد خليفة الذي شارك في كتابة السيناريو، وتحكي قصة الفيلم سيدة تصل الأمور بعمّها وأقربائها إلى الشك في هذه السيدة واتهامها باطلاً، حيث تم قتلها بصورة مأساوية لمجرد الشبهة بأخلاقها فقط.
والفيلم كما يقول المخرج مأخوذ عن خبر حقيقي ورد في إحدى الصحف عن سيدة قتلت لأنها تعشق أم كلثوم، وأعتقد أن الفيلم سيثير الكثير من الجدل والتساؤلات وخاصة لضعف السيناريو، وبسبب سحب قصة فردية وتعميمها على مجتمع، وبدا ذلك واضحاً من ردود فعل الجمهور في الندوة الحوارية التي جرت مع المخرج بعد عرض الفيلم.
في اليوم الثالث تم عقد ندوتين عن الآثار وآخر المكتشفات الأثرية في سهل جبلة، تحدث بها عدد من المحاضرين منهم د. بسام جاموس مديراً للآثار والمتاحف، ود. ميشيل مقدسي مدير الجانب السوري في التنقيب في تل تويني، والسيد كارل فإن لمبرغ مدير الجانب البلجيكي في موقع تل تويني.
كما شارك كل من د. أنطون سلمان وجمال حيدر وإبراهيم خير بك ومسعود بدوي، وقدمت الندوتان في قاعة المحاضرات في دائرة آثار جبلة.
بعدها كان الجمهور على موعد من الموسيقا، حيث كانت أمسية عازف العود العراقي نصير شمة وهذه ثاني مشاركة له في مهرجان جبلة الثقافي، حيث قدم عدداً من المعزوفات التي اشتهر بها إضافة إلى معزوفات جديدة منها:
العراق على مقام واحد - بغداد كما أحب - قصة الفرح - أفراح نيروز وغيرها.
في اليوم الرابع عقدت ندوة بعنوان «الرواية العربية من المحلية إلى العالمية» شارك بها الروائي السوري حسن صقر حيث تحدث عن تجربته الشخصية في هذا المجال وعلاقته بالآداب الأوروبية وتأثره بها وذلك من خلال قراءته قصة حوارية.
أما د. عبد الله إبراهيم من العراق والمقيم حالياً في قطر فقدم دراسة عميقة حول موضوع الرواية من المحلية إلى العالمية وقد عالج هذا الموضوع من زاوية تخصصه ألا وهو السرد وقد قدم ست ملاحظات أساسية بادئاً في البداية في تشكيكه بمصطلح المحلية والعالمية طالباً إعادة النظر بهذ ين المصطلحين وتجريدهما من الحمولة الأيديولوجية، فليست المحلية تخلف وليست العالمية تقدم وتطور.
وما يلفت الانتباه في مداخلة الدكتور عبد الله إبراهيم تأكيده على أن هناك ما لا يقل عن 200 رواية صدرت قبل رواية زينب لمحمد حسين هيكل، معتبراً أن أول رواية عربية هي رواية (أنا لست بإفرنجي) للكاتب خليل خوري وقد صدرت عام 1859.
ففي الوقت الذي بدأ به التراث السردي العربي المتراكم يتأزم وينهار في القرن التاسع عشر، ثم ترسبت في قاع السرد العربي مادة سردية هلامية أعيد تشكيلها، وعندما ظهرت رواية خليل خوري لم تكن رواية أجنبية قد عربت في الوطن العربي، ثم جرى تمصير وتعريب النصوص الروائية الأجنبية بطريقة توافق الأبنية السردية العربية.
إن الرواية العربية ينبغي أن ينظر إليها بعين التقدير لا بوصفها ملحقاً على الهامش، بعد ذلك قرأت الرواية سمر يزبك مداخلة الروائي الجزائري واسيني الأعرج الذي لم يستطع الحضور، وقد غابت عن الندوة الروائية التونسية آمال مختار، في حين أدار الندوة الروائي نبيل سليمان.
وفي مساء اليوم الأخير سهر مدرج جبلة على صوت المطربة المتألقة السيدة ميادة بسيليس التي غنّت عدداً من أغانيها الشهيرة، وخاصة الأغنية التي صارت رمزاً (يا محلى الفسحة على موج البحر)، كذلك غنت من أغاني فيروز بمصاحبة الفرقة الموسيقية بقيادة الموسيقار سمير كويفاتي، لتودع جبلة آخر أيام مهرجانها، ولتبدأ من الآن في التحضير لدورته القادمة.
هكذا أثبت مهرجان جبلة الثقافي حضوره، بعدما استقطب العديد من رموز الإبداع العرب، فقد شارك في الدورة الأولى الشاعر قاسم حداد، وفي الدورة الثانية الشاعر سعدي يوسف، كما أسهم في تقديم مبدعين من أجيال مختلفة وسلط الضوء على أقلام واعدة أثبتت حضورها فيما بعد، نذكر مازن سليمان ورضوان أبو غبرة الذين قدمهما الشاعر أدونيس في الدورة السابقة، ونتمنى أن تعود هذه الظاهرة، كذلك نتمنى وجود مقهى ثقافي يرافق مثل هذا المهرجان فالكثير من الحوار الحميمي والجاد يأتي عفوياً في لقاءات خاصة بين المبدعين أو بين المبدعين والجمهور بعيداً عن بروتوكول الندوات والمحاضرات.
وكان حضور الشاعر الكبير أدونيس لكل النشاطات وإصراره على متابعة كل ما قدم كان له دور كبير في إضافة ألق خاص على المهرجان، مهرجان الفن والأدب والحب... (الحب الذي إذا لم يكن... يجب أن يبتكر).