لعل تاريخ مصر منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى اليوم هو الأكثر تعبيراً وشفافية عن تفاعل العوامل الخارجية (العدوان الخارجي) والداخلية (أزمة القوى الاجتماعية) في صياغة دراما الشقاء القومي للأمة العربية على طريق تحقيق ذاتها في صيغة الأمة الدولة؛ فالمجتمع المصري هو أول المجتمعات العربية تعرضاً للنفوذ الغربي منذ الاحتلال الفرنسي لها سنة 1797؛ الأمر الذي ساهم في إدراج مصر بشكل مبكر في العلاقات الدولية التي أنتجتها عملية التوسع الرأسمالي العالمي بشكل مباشر دون الوسيط العثماني الذي كان يُخترق في المشرق العربي الآسيوي تدريجياً عبر نظام الامتيازات والإرساليات التبشيرية؛ الأمر الذي كان من شأنه أن يؤجل الارتطام المباشر للمشرق العربي الآسيوي بالغرب إلى أكثر من قرن وربع، مع الغزو الاستعماري المباشر له بعد الحرب العالمية الأولى.
وعملية الاصطدام هذه ولدت شكلين متمايزين بين مصر وبلاد الشام في الاستجابة للتحديات الخارجية، حيث الاصطدام المصري سيكون خلال قرن ونصف مع الغرب الأوروبي المسيحي، في حين أن المشرق العربي الآسيوي لن يتجاوز الربع قرن؛ ولذا فقد كانت اليقظة العربية في المشرق هي ثمرة الصدام مع الامبراطورية العثمانية، في حين أنها كانت في مصر نتاج الصدام مع الغرب الأوروبي؛ الأمر الذي سيجد معادله الفكري والثقافي والسياسي المختلف، بين الأطروحة المضادة التي صاغتها الحركة الوطنية المصرية، المختلفة عن الأطروحة المضادة التي صاغتها الحركة الوطنية الشامية. في حين أن الأطروحة المضادة في المغرب العربي حملت أمشاج الأطروحتين (المصرية والشامية)؛ إذ اتسمت في بداياتها بطابع إسلامي سلفي، ومن ثم حداثي علماني متغرب لاحقاً في (تونس).
تتميز الحركات القومية في مصر منذ نشأتها بطابعها الليبرالي النهضوي التحرري والتحريري: التحرري بمعنى الانفتاح على التثاقف الحضاري الحواري التحديثي، والتحريري بمعنى المواجهة مع الآخر الغربي عبر العدوان الخارجي، وعلى هذا فقد ارتكزت الحركة القومية المصرية في سيرورتها التاريخية: نهوضها وإخفاقها على حامل اجتماعي داخلي شكلت البورجوازية الناشئة قاعدته الاجتماعية في شتى مساراتها الوطنية واستحالاتها الكومبرادوية التابعة، وانكفائها التقليدي السلفي المغلق (أهل الحديث) أو الإصلاحي الإسلامي (أهل التأويل)، بل في طموحها العربي وانكفائها الإقليمي، وهي في كل ذلك إنما تعبر عن عملية اجتماعية تاريخية مركبة تحضر في مسار تشكل فضائها السوسيولوجي كل أشكال التنمية الاقتصادية، وضروب الحيزّات الاجتماعية، وألوان الممارسة السياسية، في حين أنها في المشرق ظلت تكتسب طابعاً سياسياً وطنياً خارجياً: بوصفها حركة (تحريرية) من الخارج العثماني لم ترتق إلى المستوى (التحرري) الداخلي من سلطان الموروث التقليدي، ولعل التعبير المكثف عن هذه الواقعة يتمثل في الثورة العربية الكبرى التي قادتها قوى يغلب عليها الطابع التقليدي المحافظ (الأسرة الهاشمية)، من خلال زعامة الارستقراطية القبلية الحجازية بقيادة الشريف حسين سنة 1916م.
ولهذا يمكن القول: إن أول مشروع عربي وحدوي، كان نتاج عملية التحديث الليبرالي للبنى الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المصري على يد محمد علي، ومهما قيل عن مظاهر القصور على مستوى البنى الأيديولوجية والسياسية التي اعتورت تجربة محمد علي المتسمة بالاستبداد، ومهما قيل عن حقيقة البواعث التي دفعت بمحمد علي لفتوحاته العربية، إن كانت تحركها دوافع قومية عربية أو مطامح ومطامع شخصية؛ فالوقائع لا تقاس بنبل النوايا أو سوئها، عندما تستجيب أو تتعارض مع مصالح ومطامح الأمة.
لقد كان محمد علي بتجربته هذه أداة للتاريخ - واعية أو غير واعية - في صناعة نواة فكرة المشروع القومي العربي الوحدوي، عندما استأنف المجتمع المصري دخوله العصر، بعد قرون من العطالة التاريخية، وقد تبدى هذا الدخول من خلال النهضة الاقتصادية الحديثة (المستقلة) في مصر، عن طريق إقامة الصناعات الحديثة، وإصلاح وتوسيع نظام الري وإصلاح النظام الضريبي، وفرض احترام القانون ونشر التعليم، وقد امتدت إصلاحاته إلى البلاد العربية التي حكمها، كما يرى في سوريا بين دخولها 1831 وبين إجباره - عسكرياً - على الانسحاب منها في 1840 وفي السودان فيما بين دخولها 1821 حتى وفاة محمد علي في 1849 فشهدت سوريا في عهد إبراهيم (إلغاء نظام البشالق العتيق، ووضع الإقليم السوري تحت إدارة حاكم مدني مقيم في دمشق، وأدخل نظام التسجيل لتنظيم الوثائق الحكومية، وأصلح نظام القضاء، وألغيت الامتيازات المقصورة على الأثرياء، وأصبح الجميع متساوين أمام القانون، وألغى إبراهيم نظام الالتزام وقضى على نفوذ واحتكار الأعيان المحليين، وفرضت ضريبة شخصية جديدة، وأصبح نظام التجنيد إجبارياً، ولم يعد دفع (البدل) يقبل من أحد كبديل للخدمة العسكرية). (1)
وبعد سنة من سقوط حكم داوود الإصلاحي في العراق، كتب القائم بأعمال شركة الهند الشرقية في بغداد 1833 يقول: (إن أهل بغداد، وهم فيما هم فيه من بؤس، تتعلق أبصارهم بإبراهيم... وتجار بغداد... يتأسفون لتدخل بالمرستون (وزير الخارجية البريطاني) لمنع إلحاق إقليمهم بالإقليم (يقصد سوريا) الذي يخضع لذلك الحاكم الذي بدأوا بالفعل يسمونه (الخليفة المصري). (2)
هذه الشهادة لن تقودنا إلى استنتاج أن هناك نزوعاً قومياً عربياً راح ينتشر في المجتمعات العربية؛ فالمجتمع العربي لم يكن بعد قد تجاوز الوعي المللي، والإقليمي المحلي الضيق، حيث الناس يصنفون وفق تنضيدات فسيفسائية ميكروسكوبية، تصل حد النسبة إلى المدينة التي ينضمون إليها (بغدادي - قاهري - تونسي - شامي - حلبي)، ولا تزال هذه التسميات مستمرة، لكن في صيغة النسبة العائلية إلى اليوم.
لكن الإنجازات التحديثية الليبرالية - المشار إليها - في سوريا، كانت تشكل الأرضية التي من شأنها أن تقدم نموذجاً لممكن القومي العربي، عبر الممكن النهضوي، بوصفهما صنوين نظرياً وتاريخياً: أي من خلال الاستناد إلى مرجعية الترسيمة النظرية لنشوء القومية في المجتمعات الأوروبية التي تناظر فيها نهوض الوعي القومي مع نهوض الوعي المدني الدنيوي الحديث.
لا شك أن النزوع القومي العربي لم يشكل حالة ثقافية سياسية مجتمعية شعبية لتغدو الحامل الاجتماعي للمشروع القومي العربي الذي أيقظه محمد علي، بل إن مشروع محمد علي كان نخبوياً سباقاً في فراسته الفردية ممثلة بالذكاء الغريزي الذي أتاح له الاستيلاء على مقاليد الأمر في مصر، وقد عبر محمد علي نفسه عن شعوره بأنه كان وحيداً، حيث يقول لبوريخ: (لم يتسن لي العثور إلا على القليل جداً من الناس الذين يفهمونني... كنت وحيداً تقريباً خلال الجزء الأكبر من حياتي).
وشعور محمد علي هذا لم يكن وعياً فردياً زائفاً بوهم الفرادة والعظمة، بل يؤيده في رأيه هذا حول نفسه ما وصفه به كارل ماركس عندما قال: (كان محمد علي هو الشخص الوحيد في الشرق الذي تسنى له إحلال رأس حقيقي محل (عمامة المراسم)). (3)
ولقد تحمس ماركس نفسه للمشروع التحديثي لمحمد علي عندما راح يندد بزيف ادعاءات أوروبا حول دورها التمديني والتحديثي، وذلك عندما تحشد جيوشها وأساطيلها لقطع هذا الرأس الحقيقي لصالح (الطربوش العثماني الفارغ) حسب التعبير المجازي ماركس.
هذا الوعي النخبوي شأنه هو شأن كل التيارات الفكرية الجديدة التي تنبجس في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، حيث الايديولوجيا غالباً ما تكون سباقة على البنى التحتية ومكتظة بالملابسات التاريخية، لكنها - في الآن ذاته - ذات شفافية خاصة عن علاقة الذات بالموضوع التي تتبدى بشكل بسيط وواضح التنافذ والتراسل، قبل أن تغدو مع الرأسمالية علاقة استلاب بين الذات والموضوع شديدة التعقيد والتركيب والتداخل.
ومن هنا سنجد ابنه إبراهيم يعبر عن نزوع قومي عربي، يصعب البحث عن حوامله الاجتماعية الثقافية والسياسية في البنية الاقتصادية والاجتماعية القائمة في زمنه، بل هو وعي من شأنه أن يعبر فقط عن طموح وعي فردي نخبوي حديث، وذلك عندما يتحدث عن ولادته في مصر، وعن شمس مصر التي لونت دمه وصيرته عربياً، وهو الألباني الأصل.
إن هذا الجنوح في نظام الخطاب عند إبراهيم من وعي الملة (الهوية الدينية) إلى وعي الأمة (الهوية القومية)، إنما كان يتناظر فكرياً وسياسياً مع مقومات تحديث البنى الاقتصادية والإدارية والتعليمية التي كانت تجري في مصر لتضعها على أبواب التحديث التقني والحداثة الذهنية، حيث يعبر خطاب إبراهيم: (صراحة عن بعث القومية العربية وعن توحيد كل الناطقين بالعربية تحت سلطة واحدة وعن إتاحة كل المناصب الحكومية، في البلاد وتوفير كل الرتب والنياشين للعرب وتقاسمهم لإيرادات الدولة ولوظائف السلطة التنفيذية في آن واحد)، ويشير البارون (برالكونت) المبعوث الفرنسي لدى إبراهيم: (إن إبراهيم لا يخفي نيته في إحياء الوعي القومي العربي وتجديد الأمة العربية وغرس شعور الوطنية الحقيقي في العرب والتعاون معهم إلى أقصى حد في حكم الامبراطورية القادمة... وقد روج إبراهيم بنشاط لأفكار البعث القومي، وكثيراً ما ذكر في نداءاته بماضي الشعب العربي التاريخي المجيد وأثر بحماسه في الجنود، وقد أحاط نفسه بأناس شاطروه أفكاره، وناضلوا من أجل نشرها). (4)
هكذا نجد أن النزوع القومي هو نتاج ولادة الوعي الحديث، وثمرة الشروع في عملية تجديد البنى الاجتماعية والثقافية، حيث الليبرالية ستفصح عن وعي تنويري لافت في وعي النخبة التي راحت (تغرس شعور الوطنية الحقيقي في العرب)، حسب ملاحظة (برالكونت) التي تلاحظ واقع الوعي الاجتماعي المللي ما قبل الوعي القومي العربي في مصر، حيث ينبغي - والأمر كذلك - غرسه.
إن الرسالة التقريعية التي يرسلها إبراهيم إلى السلطان محمود الثاني سنة 1833 تظهر لنا أن الرجل لم يكن مجرد قائد عسكري في خدمة الأحلام الامبراطورية لأبيه الديكتاتور محمد علي، وهو لا يستخدم الخطاب القومي للتدليس وتضليل الشعوب العربية كما تفعل الأيديولوجيا القومية شعاريا - اليوم -؛ إذ هي تبتذل الحلم القومي وتحوله إلى مسخرة إعلامية في خدمة تطلعاتها لركوب شعوبها إلى الأبد، بل ترخصه إلى الحد الذي تضحي بأجزاء من الأوطان، إن لم نقل الأوطان ذاتها باسم أكاذيبها عن تمثيلها للإرادة القومية بوصفها حارسة بواباتها أو بوصف عواصمها الإقليمية (قلب العروبة النابض)، وذلك - طبعاً وفق أبواقها الإعلامية - بفضل قيادتها للمشروع القومي لكن إلى الهاوية.
إذن إن خطاب إبراهيم باشا ينتظم في سلسلة مفاهيمية ليبرالية تستدعي المسألة القومية بوصفها مسألة وعي حديث بالهوية، وهو وعي ينطوي على مضمون نهضوي تنويري وليس محاكاة سطحية للغرب، فلا بد من تنوير الأذهان.
يكتب إبراهيم للسلطان محمود الثاني بمناسبة إصدار الأخير أوامره الخاصة يتقلد تسريحات الشعر والأزياء الأوروبية، يقول: (إن محاولة النهضة لا تبدأ بتزويد الشعب بالكتنيات أو البنطلونات الضيقة... بدلاً من البدء بالملابس، كان الأولى بالباب العالي أن يهتم بتنوير الأذهان). ويستند إبراهيم في هذا السياق إلى تجربة مصر كمثال للطريق النموذجي إلى النهوض بالبلاد. (5)
1 Elias Saba. "Wilayat Suriyya, 1876-1909"ih. Dissertation, Michigan University, 1971, PP.6-7، نقلاً عن المشرق العربي والغرب (بحث في دور المؤثرات الخارجية في تطور النظام الاقتصادي العربي والعلاقات الاقتصادية العربية، د. جلال أحمد أمين - مركز دراسات الوحدة العربية - ط 4 - 1983 - ص18.
2- المصدر السابق، ص 19.
3- الفكر الاجتماعي والسياسي - سبق ذكره - ص 26.
4- راجع لوتسكي - تاريخ الأقطار العربية الحديثة - ص 26.
راجع أيضاً - جورج أنطونيوس - يقظة العرب - دار العلم للملايين - ط 6 - آب بيروت 1980 - ص 90
5- Saliry M. Empire Egyptier Sous Mohammed Ali et La question d6Orient (1811-1849), Paris, 1930. نقلاً عن الفكر الاجتماعي والسياسي - سبق ذكره - ص 37
majdeid@hotmail.com
- حلب