بالرغم من ان هذا السؤال قد أربكني إلا إنني أجبته وبسرعة: طبعا أنا هنا لأعمل ما هذا السؤال يا أستاذنا؟ كانت يداه متشابكتين بتوتر وعندما أجبته أبعد إحداهما عن الأخرى وعاد بظهره إلى الخلف أسنده على الكرسي دون أن يبدو علية الارتياح اخذ ينظر إليّ دون أن يتحدث أو يبتسم. أشعرتني نظراته بأني قد اقترفت ذنبا كبيرا ضايقني هذا الأمر لكنني حافظت على تماسكي وعلى ابتسامتي الجامدة.
- اسمعي يا حصة: ولكن في مقام أخيك الكبير، مجال العمل مجال واسع جدا وشائك ويحتمل الطيب والخبيث وتصرفاتك الأولى هي اللي سوف ترسخ في أذهان زملائك ومديريك ومهما كنتِ مسنودة هذا الشيء لن يخدمك ولا بشكل من الأشكال أنتِ شابة طموحة وشخصيتك قوية وقيادية ومن الممكن أن تصبحي في يوم من الأيام مسؤولة كبيرة.. اتركي عنك الثرثرة والفشرة الفاضية.. من يسمعك يقول ابنة الحاكم!!. ابتسم بشكل طفيف لكنه سرعان ما عاد إلى جديته: صدقيني يا حصة أنت تتصرفين بطريقة سوف تضر بمستقبلك المهني ويجوز أن تنهيه قبل أن يبدأ فإذا كان لديك استعداد كي تكوني موظفة جادة يجب أن تتغيري ومن الآن. لم أعلق كنت جالسة استمع إليه كالصنم دون حراك.
- هاه ماذا قلت؟
- وعلى مضض قلت: أوكي
- إذا اتفقنا.
ضايقتني كلماته وأسعدني موقفه أحسست بأنه صادق ويبحث عن مصلحتي وقد رغبت فعلا في التغيير لكن هل سأتمكن من ذلك؟ هذا ما لم أكن واثقة منه!. عدنا إلى قاعة التدريب وعاد أحمد إلى أسلوبه المرح أما أنا فقد كنت كمن دخل إلى (مسجد) هادئة ومسالمة، نظر إليّ أحمد شعر بأن خاطري مكسور بعض الشيء وبما أنه كان يعرف السبب أراد إخراجي من تلك الحالة: أتمنى يا حصة ألا يكون هذا هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟
نظرت إليه بطيبة مصطنعة وقلت: خلاص ما فيه عواصف بعد اليوم أنا من الآن وطالع (هبوب غربي).!
بدأت علاقتي بأحمد من هنا كان أخي وأبي وصديقي وأستاذي وبمجرد أن أتعرض إلى مشكلة مهما كانت صغيرة الجأ إليه كان يعرف كيف يتعامل معي وكنت أتقبل منه كل شيء وهو الوحيد الذي يستطيع أن يحتد عليّ بالكلام دون أن أغضب منه.
في الأيام الأخير لفترة التدريب تمت استضافة عدد من المديرين لحثنا على الاجتهاد في العمل وبذل كل ماهو غال ونفيس في سبيل هذه الدائرة وكان أول هؤلاء المديرين مدير المالية واسمه راشد رجل في منتصف الأربعينيات معتدل الطول أبيض يميل إلى الاحمرار متحدث لبق مثقف خريج إحدى الجامعات الأمريكية عرفت فيما بعد أنه كان من أصدقاء أخي المقربين وذلك عندما دخل إلى مكتبي ذات صباح وكانت تبدو على وجهه الدهشة:
- حصة!
- أهلا أستاذ راشد
- أنتِ أخت فلان
- نعم
- تدرين انه صديق الطفولة والمراهقة يا الله كم صعنا مع بعض
- صعتوا؟!!
- ايوه صعنا لا يكون تظنين أخوك ملاك؟
فاجأني هذا الأمر فأنا لم أكن أتصور بأن المديرين يمرون بالمراحل التي يمر بها الإنسان العادي كنت أعتقد بأنهم كالطلاب الأوائل في المدارس والذين يولدون ويعيشون نظاميين ومؤدبين إلى آخر رمق في حياتهم. كنت أراهم نجوما بل كأنهم بشر نزلوا من السماء لهم هيبتهم العظيمة وأ عترف الآن بأنها كانت تصورات غبية عرفت ذلك بعد فترة من العمل مع مجموعة كبيرة منهم وقد وجدت إن تسعة وتسعين وتسعة من عشرة من المديرين (فالصو).
لن أطيل عليكم ثاني مدير دخل إلى قاعة التدريب كان مديرا أهبلا وهو الذي تسبب لي في الصدمة الأولى في تلك المرحلة الحديثة من حياتي العملية فقد كان يتحدث بغباء وبين كل فقرة وفقرة كان يسألنا أيضا بغباء (هاه فهمتوا والا لا؟) وكأننا في فصل دراسي كان قصير القامة بدين وحنطاوي. كان رئيسا لقسم صغير حين توفى مدير الإدارة التي كان يعمل بها وُكلف هو مؤقتا بإدارتها إلى أن يتم تعيين مدير جديد لها ثم ومع الوقت ولا أدري لماذا وكيف أصبح هو المدير الأبدي لتلك الإدارة. وقد جاءت من هنا تسميته ب (مدير بالصدفة).
مضت فترة التدريب بشكل سريع كانت شيقة وحلوة لم نشعر بالملل خلالها لكننا لم نستفد من أي الأمور التي تدربنا عليها لأن الحديث عن العمل شيء وممارسة العمل شيء آخر.. أثناء التدريب كان الحديث يدور حول الاستقامة والأمانة والانضباط وبذل الجهد في سبيل خدمة الوطن ومن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.. إلى آخره.
وخلال العشر سنوات التي عملت بها في هذه الدائرة لم ألمس ولو للحظة واحدة بأن الموظف يود خدمة بلده أو يبحث عن الاستقامة أو الأمانة أو حتى يفكر في الانضباط الكل يبحث عن الراتب والعلاوة والترقية وعندما تحين فرصة للاختلاس أو للرشوة قلة هم الذين يرفضونها و....... أعتذر أعتذر يبدو أنني قفزت قفزة واسعة إلى الأمام دون أن اشعر بذلك.
كان يوم التكريم يوما حافلا اختلط فيه الفرح بالحزن وقد قام المدير العام بتوزيع شهادات التخرج علينا وكان أحمد يقف بجانبه يناوله الشهادات. أخذ بعض الزملاء شهاداتهم وعندما وصل دوري كنت على وشك البكاء احمر وجهي واغرورقت عيناي بالدمع لم أكن أريد لهذه الدورة أن تنتهي ولم أكن أريد لأحمد أن يتوقف عن الحديث. فعلا كانت أجمل مرحلة في حياتي العملية، المهم وقبل أن تتساقط دموعي العزيزة دار حديث هامس بين المدير العام وأحمد وصل إلى مسامعي وحوّل حزني إلى فرح: شو رأيك في بنتنا؟ إن شاء الله تبيّض الوجه؟
- ممتازة.
أخذت شهادتي بسعادة واستدرت لاكتشف أن الحديث الهامس قد وصل إلى جميع المتواجدين في القاعة كان الشرار يتطاير من أعينهم بشكل واضح خصوصا الزميلة مريم وقد سمعتها تقول لعفراء: (اش معنى هذي؟ على راسها ريشة؟!).
انتهت فترة التدريب بوصايا بثها أحمد على مسامعنا بحرص شديد وكأننا سندخل إلى معركة لا إلى دائرة حكومية.
أخذ كل متدرب شهادته وتوجه إلى إدارته محملا بالطموح والحماس والأحلام الوردية أما أنا فحملت شهادتي واتجهت إلى مكتب المدرب أحمد محملة بخليط غريب من المشاعر المتصادمة. يتبع
* قاصة من الإمارات العربية المتحدة
amerahj@yahoo.com