في البدء وجدت ورقة سفر قديمة، نُسيت مهملة في سلة التاريخ، وسلة الحد وسلة الاسم، ترسل ترنيمة وداع وسؤال: (أينا كان عند المصب القتيل..؟)!
وفتشت بين أوراقي القديمة، أبعثرها لعلي آنس برائحة أحد (الثلاثة)؛ إذ أتناول الأوراق والأدوار وحمى شهر أغسطس المألوفة، وشقراء يصافحني وجهها تعيدني إلى دوامة حرف السفر من جديد، وتدون صفحات يومياتها، تعتلي كرسياً عالياً في صالة السفر الخارجية دون أن تأبه بأحد... وصوت المبدع الشاعر علي بافقيه ينفذ إلى مسام القلب، ونتحدث معاً في ذات اللحظة نتداول الكلام حول شعراء السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في الجزيرة العربية (اليمن والسعودية)، وهي المرحلة التي ما زال صداها وتأثيرها يجد طرح الأسئلة المهمة. ولكون الصديق علي من الأصوات المهمة لتلك الحقبة الشعرية فقد غابت قصيدته من بين النصوص الصادرة في (كتاب في جريدة)، وغابت أصوات ونصوص أخرى كالصيخان، والموكلي، وزائد، وحمد الفقيه، وأهم منهم جميعاً عندي الراحل المبدع عبدالله باهيثم؛ لأنهم يستطيعون أن يسجلوا حضورهم في كل لحظة من هذا العالم الذي تحكمه القوة والمصالح، ولن أسعى لتفنيد الأسباب؛ فهي معروفة، وأقل من أن أمرّ عليها؛ لذا فقد أوجعني غيابك يا صديقي الحاضر (أبا أحمد)، وإن لم تغب عن الذاكرة والقلب، ولكن كان غيابك عن القراطيس.
سلمت وجهي لرجال الجوازات الذين نعرفهم في المطارات العربية، تأمل الأول وجهي، وتفحص الصورة الملصقة على الغلاف الداخلي، وسألني بدهشة:
- هل أنت متأكد أنك أنت أحمد؟
هززت رأسي بالإيجاب. حلت إلى جواري في الطائرة خادمة من شرق آسيا، ترافق عائلة السفر للسياحة، وفي الفضاء جاء ما يشبه العاصفة؛ إذا بمجرد ما ارتفعت الطائرة إلى السماء، سألتني بضعف شديد:
- قل لي بربك إلى أي بلد نحن ذاهبون..؟
كان السؤال صاعقاً وغريباً؛ فسألتها (حقا ألا تعرفين؟)، وحينما تأكدت سألتها مرة أخرى: (أليس لك حق الانتخاب في بلدك؟)، وحينما أجابت بنعم، سألتها وأنا في حرج شديد لعلمي بالجواب، فقاطعتني قائلة:
- لا أملك ألا أن أنفذ ما يطلب مني؛ فجواز سفري لم يطأ راحة يدي من بداية عملي مع هذه العائلة؟!
وطلب مني رجل الجوازات في المطار الآخر أن أعطي وجهي لآلة التصوير المنصوبة إلى جواره، وقد فعلت، والناس تفرّ من تحت بصره بعد أن يضع بصمته المجيدة على جوازاتهم، وضحكة عميقة في داخلي لا تمنع أن أذهب ضحية تشابه الأسماء وبالذات الاسم (القبلي)!
سلمت جسدي المنهك في أحد المنتجعات الصحية، لأصابع طبيبي الذي خبر أوجاعي منذ سنوات، وظلت روحي هائمة في فضاء المكان، وقد لاحظ شرودي هذه المرة، وقد ألف ضحكي ونزقي وصخبي، وأصابعه تمر بهدوء على مواضع التعب. عيناي تجوسان فضاء المكان، كأنه يستعيد ما بيننا من حوارات حول المكان وخصوصيته، قال فجأة:
- بالحق ما قلت لك، إن هذا المكان صار لمستثمر سعودي..؟!
قلت باسترخاء:
- من...؟
- ...
صحت به في لوعة، وكأنه زلزال بركاني منتظر، تفجرت براكين تلك الجبال من داخلها، وصبت الحمم ودلقت مياهها الكبريتية لتسري في شرياني...
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5212» ثم أرسلها إلى الكود 82244