ثمّة وعيٌ يتخلّق في رحِم الساحة العاميّة، على رغم ما يظهر سطحيّاً من عكس ذلك. وعيٌ لغويّ، ووعيٌ ثقافيّ. والسبب أن جيل اليوم - رغم الضوضاء التي تثار لإعادة العقول القهقرى، وكأنها مؤامرة على العقل العربي - لم يَعُد جاهلاً، ولا متعصّباً تعصّب جيلٍ مَضَى. ولئن أصابته نعرة الماضي، فما يلبث أن يأوب إلى رشده. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يُقِرّ عِلْيَة الأعلام من أرباب الشعر العاميّ بأن مشروع الأُمّة الخالد هو في مضمار العربية الفُصحى، وأن اللهجات العاميّة مرحلة ويجب أن تنتهي. ولقد رأينا في مساق سالف تصريح الشاعر العاميّ المهم فهد عافت حول هذا الأمر، ويمكننا أن نضيف شاهداً آخر (من أهلها)، لصاحب أكبر موقع أدبي على (الشابكة) - هو: موقع (شظايا أدبيّة) - ومنشئ أول وكالة إلِكترونيّة باسم (وكالة الشعر والشعراء)، السيّد خلف السلطاني، الذي وجّهت إليه محرّرة الصفحة الشعبيّة في صحيفة الحياة حصة هلال (ريميّة)، (ع 16171، السبت 14 يوليو 2007، ص 34)، هذا السؤال:
(س: ألا تظنّ أن أهل الخليج العربيّ يحمّلون الشعر الشعبيّ أكثر مما يحتمل، وأنه في النهاية لهجة ستنقرض وتظل اللغة الفصحى وحدها، كما هو حال المعلّقات الجاهليّة وغيرها من الشعر الذي لم يحفظه إلا الفصحى؟).
وهو سؤال غير مألوف كثيراً في سياق الحوارات مع المهتمّين بالشعر الشعبيّ، بل المألوف نفي خطورة العاميّة، والتوهّم والإيهام بأنه خالد مخلّد، وتراث عظيم، لو خسرته الأمّة ما قامت لها من بعده قائمة، وأنّ كل من يقول غير هذا الكلام ينقصه الانتماء للآباء والأجداد والوفاء لتراثهم المجيد! إلى آخر هذه (الطبطبات) المجاملاتيّة الضّحلة. إلا أنّ سؤال ريميّة ينمّ عن تجاوز تلك العقليّة الرثّة. وتأتي إجابة صاحب (شظايا)، غير متوقّعة كذلك، ولا يبعد أن تجلب له اللوم من بعض مهووسي الفكر العاميّ؛ إذ هي لديهم بمثابة خيانة عظمى لخطابهم السائد:
(ج: سؤالك أختي ريميّة هذا أعجبني وهو ذو شجون؛ فاسمحي لي بالتفصيل فيه. أولاً: بالفعل لقد تجاوز الشعر الشعبيّ مؤطّراته المنطقيّة؛ فأصبح لدينا اليوم الشاعر الشعبيّ، والناقد الشعبيّ، والمحرر الشعبيّ، والإعلاميّ الشعبيّ، والتاجر الشعبيّ الذي يستثمر أمواله في هذا المجال، وأصبح لدينا القنوات الفضائيّة الشعبيّة، وأصبحت لدينا الصحف والمجلات والمهرجانات، وغيرها من الأمور الخاصة فقط بالشعر الشعبيّ... ثانياً: في ما يتعلّق باللهجة والهويّة، فالحقيقة نحن معشر الشعراء الشعبيّين نسهم من دون أن نعلم في مشروع ضخم، يهدف إلى طمس الهويّة العربيّة من خلال تغريب لغتها الأُمّ، فتزايدُ جماهيريّة الشعر الشعبيّ على حساب الشعر الفصيح هو بالضرورة تزايد للاهتمام باللهجة المحلّيّة على حساب اللغة العربيّة الفصيحة، وهذا - مع الوقت - سوف يترتّب عليه آثار سلبيّة كثيرة. ثالثاً: وأمّا في ما يتعلّق بانقراض الشعبيّ، فأعتقد أننا نتجه إلى غير ذلك، فاليوم إن أردت أن تخلّد ذكرى أو تشهر حدثاً أو تمتدح رمزاً، فاكتب فقط بالشعر الشعبيّ، إنها لغة الغناء والأغنياء!).
هذه كلمة حق، لم تأتِ من متعصّب للفصحى مثلي - كما يُنعت من يدافع عنها اليوم - ولا من أكاديميّ (متكلّس)، أو نخبويّ عاجيّ، كما يحلو لأغرار الساحة أن يقولوا حين يُنتقد ما يحدث (في الخليج بخاصة) من إعصار شعبويّ لا يُبقي ولا يذر. بل هي كلمة منشغل بالشعر العاميّ، بيد أنه نقيّ الرأي، غير ملوث بأدلجة، ولا بتعصّب أعمى؛ إذ القضيّة ها هنا ليست مع الشاعر العاميّ في ذاته، ولا مع ذلك الشعر - على خطورته - ولا ضدّ الاهتمام به في حدود معقولة مقبولة، ولكن القضيّة تدور على اتخاذ الشعر جسراً فكريّاً إلى مآرب أخرى - من تشتيت الذاكرة الجمعيّة وتمزيق الهُويّة العربيّة - تخفَى على البسطاء، الذين لا قِبَل لهم بإدراك الغايات والعواقب، وإنما هم يحبّون ما أَلِفُوا منذ طفولتهم من شعر لَهَجيّ، ولسنا نَقِلّ عنهم حبّاً لكل جميل، عربيّ أو أعجميّ، غير أن ثمّة مصالح عُليا مؤرّقة لكل غيور، لا مساومة عليها، ولا عواطف ينبغي أن تَحْكُم مواقفنا فيها.
والمنافح عن العاميّة من هؤلاء قد يتلمّس بعض مخارج نافقائيّة؛ لأن الحُبّ يُعمي ويُصمّ؛ فتراه، إذ يُقرّ بحقيقة خطورة الشعر العاميّ، يأبى إلا أن يدسّ رأسه في رمال الهوى؛ ليقلّل من الأمر حينما يُطرح، واصفاً القائلين به بمجرّد المبالغة، ثم قد يُردف هذا بالتفتيش عن مخارج فرعيّة شتّى، بهدف تشتيت القضيّة، واستشعار البراءة وراحة الضمير؛ ليسأل مثلاً: ماذا عن اللغات الأجنبية وخطورتها؟ ماذا عن أثر المسلسلات والبرامج التي تستخدم اللهجات المحكيّة؟ ماذا... وماذا... ماذا...؟ أين أنتم عن هذا وذاك وتلك؟ لماذا (تتغرّضون) فقط للشعر العاميّ البريء المسكين وتهوّلون من شأنه؟ وكأن من يُعالج سلبيّة لا بُدّ أن يحشر كل السلبيّات في سلّة واحدة، وإلا فقضيته باطلة! ويمكن القول لمثل ذلك الخطاب الدفاعيّ عن الشعر العاميّ: إن الخطأ لا يُبرِّر الخطأ، والإدانة هي لكل تلك المظاهر المهدّدة للغة والهويّة والانتماء الأصيل. ومع هذا فمن يراوغ تلك المراوغات بقشور من الحجج الواهية، التي أكل الدهر عليها وشرب، وسئمت الآذان سماعها، قد لا يكون إلاّ متهرّباً من المواجهة، أو غير مدرك أن خطورة اللغة الأدبيّة - ولا سيما الشعريّة - لا تضاهيها خطورةٌ أخرى، من حيث إن الأدب حامل اللغة، ومؤسّس قيامها، ونذير تحوّلاتها، فضلاً عن كونه حامل الروح الشعبيّة، والقِيَم الإنسانيّة، في أي أمّة من الأُمم. على الأدب تنشأ اللغات، وبه تتطوّر دائماً، ترقى أو تنحدر، تنمو أو تضمر، لا على تأثير مسلسل أو فيلم أو برنامج إعلاميّ. ومن هنا تتبدى خطورة الأدب الاستثنائيّة؛ لأن أيّ تحوّل فيه يهزّ كامل المنظومة اللغويّة والثقافيّة في الصميم، إنْ عاجلاً أو آجلاً؛ فكيف إذا كانت للأدب تلك المكانة اللصيقة الفريدة بالشخصيّة الإنسانيّة، كما هي الحال في علاقة الأدب (الشعر بخاصة) بالشخصيّة العربيّة والمجتمع العربيّ؟!
ولقد سبق أن أشرنا إلى أن خطورة الشعر العاميّ تتخطّى مسألة اللغة إلى تهديد الثقافة الاجتماعية وحياة المجتمع المدنيّ الحديث. وأن القضيّة تتعدّى في نظرنا اللذة الفنية والطرب البريء بشعر، إلى ابتعاث قِيَم ماضويّة وترسيخها عبر الأجيال، من تلك القِيَم الاجتماعيّة المعيقة للحياة المعاصرة، التي تسعى المجتمعات الحديثة إلى التخلّص منها، ما وسعها الطموح إلى مجتمع أفضل وأرقى، وإلى تطوير المجتمع باتجاه مضادّ لها، يأخذه نحو العدالة، والمساواة، والوحدة، اجتماعيّة أو وطنيّة أو قوميّة. ولا أدلّ على خطورة تشجيع النبش في الذاكرة العاميّة عبر الأدب ممّا نُشر في الصحافة مؤخّراً من بروز مظاهر اجتماعيّة لنعرات قَبَليّة حادّة، استيقظت بفضل مسابقات الشعر العاميّ، كمسابقة (شاعر المليون)، والحماسيّات الإعلاميّة والاجتماعيّة التي واكبتها. منها أن عادت رموز التفكّك الاجتماعي عبر علامات رمزيّة صار يضعها بعض الشباب فوق بيوتهم أو سيّاراتهم؛ لتدلّ على انتماءاتهم القَبَليّة، مناوأةً لخصوم قَبَلِيِّيْن أو تحشيداً لأبناء القبيلة نفسها! وتلك إشارات قد تبدو بريئة، لكنها خطيرة المعنى والمغزى، لها ما بعدها. بل لقد بَلَغَ الأمر فيما بَلَغَ إلى إثارة فتن بين شرائح اجتماعيّة، جرّاء بعض القصائد، التي صارت التقنية الحديثة - من (إنترنت)، ورسائل جوال، و(بلوتوث) - وسيلة انتشارها بين الناس، كالنار في الهشيم. ولا غرابة إذن أن تقع جريمة قتل لأحد الشعراء في إحدى المدن - حسبما نشرت صحيفة (الحياة، ع 16183، الخميس 26 يوليو 2007 الموافق 12 رجب 1428هـ، ص 6) - وذلك بسبب قصيدة هجاء، حيث ذكرت الصحيفة أن تلك القصيدة تسببت في مقتل ناظمها أمام مسجد أثناء توجّهه لأداء الصلاة بإحدى المدن السعوديّة! وقد عزا القتلة قتلهم المواطن (في العِقد الخامس) إلى قصيدة نظمها ونشرها.
ما معنى هذا؟ وفي أي عصر نعيش؟
أظن الأمر، لدى كل عاقل، بات أبلغ من أي تعليق!
وللموضوع صلة.
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* عضو مجلس الشورى- aalfaify@yahoo.com