كانت محاولة سيرفانتس تتمتع بقدر كبير من الذكاء حين سعت إلى فضح تلك الترهات في حكايات (فرسان الصليب)، وسير الفرسان المشاة أو الجوالة وقصصهم بما لا يتقبله العقل والمنطق مدللاً على أن قدرات الإنسان الطبيعية لا يمكنها محاربة الجن، أو غيرها من الخرافات، وأن هذه الأوهام لا تفيد إلا في إفساد عقول من يقرأها أو يؤمن بها.
ومن هنا يمكننا اعتبار (دون كيخوته) انحرافة فنية كبرى في مسار القص الإنساني، ليس على سبيل التكنيك من الشفوية إلى الكتابية، ولكن على مسار الاعتناء بالواقع، بعيداً عما روج له الغرب من مقولات وأفكار كبرى، رابطين بين ظهور فن الرواية وظهور (دون كيخوته)، زاعمين أنها حولت الرصد من عالم الآلهة وأنصاف الآلهة والخوارق الكبرى إلى الإنسان العادي، هذا الذي قام بالثورة البرجوازية، وأنهى الحقبة الإقطاعية ليستقبل الثورة الصناعية ومجتمع الحداثة، في حين أن مجريات الواقع التاريخي تدلنا على أن عصر الحكاية عن الآلهة وأنصافها والصراع الدائر بينها الذي يحدد مصائر البشر على الأرض قد انتهى منذ زمن بعيد، حتى إن التراجيديا اليونانية نفسها قد انتهت، وظهرت فنون أخرى كان من بينها المقامات والقصص الشعبي وأدب الرحلات، وكل ذلك كان مؤذناً بتطور فنون السرد إلى ما نسميه الآن الرواية، ولم تكن الطبقة الوسطى ولا الثورة الصناعية ولا غيرها من مفردات الحداثة الغربية قد ظهرت إلا بعد ما يقارب المائتي عام من سيرفانتس، ومن الصعوبة القول بنبوءة فنية ذات أبعاد زمنية طويلة كهذه، كما أنه من الصعوبة اختصار ما يزيد على ألف عام من الزمان للربط بين اليونان وأوروبا الحديثة كحضارة واحدة موصولة ودائمة، فثمة إنجازات كبرى، ومغذيات متعددة ومعقدة كانت الدافع لميلاد تحولات أكثر أعمقاً وأهمية، من بينها تحول النص الأدبي من الشفوية إلى الكتابية، ومن الفعل الجماعي إلى الفعل الفردي، ومن الاحتفاء بالبطل إلى الاحتفاء بالأمة، ومن الحديث عن الآلهة إلى النزول إلى الأرض، فهذه الانحرافات لم تنتجها البشرية بين عشية وضحاها، ولعل قصص (ألف ليلة وليلة) أعمق في إنسانيتها وأحلامها البشرية البسيطة من هزلية سيرفانتس، لكنها جاءت عملا ًجماعيًّا يُعبر عن مخيلة جمعية، ولا نعرف مؤلفاً واحداً لليالي كي نقيم له فروض التكريم والاحتفاء على ابتكاراته السردية العظيمة.
ولعل إشكالية (ابن الأثير) كانت أكبر وأعظم، فهو ليس قاصاً، ولا راوية، لكن مهنته كمؤرخ، وخبرته الواسعة في سرد أحداث التاريخ أهلته لكتابة نص طويل ذي طابع ملحمي، لكن إشكاليات زمانه كانت أعمق، فقد كان من الأجدى له كتابة قصة ترد على الفرس ولا تثير النزعة الشعوبية التي حرمها الإسلام، وعليه أن يبرز ولاءه للخليفة العباسي الذي يعيش في كنفه، وعليه أن يختار شخصية ذات سطوع تاريخي بحيث تلقى قصته صدى لدى الجميع، وأن تكون هذه الشخصية رغم تاريخيتها بعيدة عن مجريات التاريخ الإسلامي من جانب، وبعيدة عن وقائع الفعل التاريخي الذي سيراجعه فيه المؤرخون، وعليه أن يكتب كتاباً سيضعه الوزراء والأمراء والنبلاء في مكتباتهم، ثم يشيع تداوله بين العامة بعد ذلك، وكانت شخصية (حمزة بن عبدالمطلب) هي المخرج من كل هذه المصاعب الفردية والفنية، وكان عليه أن يجردها من وقائعها بنسبتها إلى أمير يدعى إبراهيم، وعلى نقيض السير يجيء الرمز الفني واضحاً وعالي الدلالة، (فحمزة أسد الله وإبراهيم أبو الأنبياء)، ومن ثم فهو لا يخبرنا من هو حمزة، ولا من هو إبراهيم، ويترك الأمر مفتوحاً للتأويل، مما يسمح له بخلق شخصية فنية فريدة يمكنها أن تحقق شرط المنازلة بين قصته وقصة (فيروز شاه)، فمثلما تزوج فيروز (عين الحياة) ابنة الملك اليمني يتزوج حمزة (مهر دكار أو شمس النهار) ابنة كسرى، وتأتي الصعوبة الأكبر في مواجهة نقطة ضعف يشهد بها التاريخ العام، وهي سيادة الفرس على العرب قبل الإسلام، وكذلك الفارق الحضاري الكبير بين الشعبين، ومن ثم فزواج (شمس النهار) من البطل العربي البدوي يحاط بالدسائس، ويصبح على البطل تحرير بلاده وقهر عدوه واعتراف الجميع بأنه ملك الملوك، ولابد أن يسلك مسلك الملوك من ترفع وترف ورغد، حتى يوشك على ضياع إمبراطوريته التي تضم الشام والجزيرة ومصر والسودان واليمن وأجزاء من إيران، ومن ثم ينهض البطل من جديد ليستعيد ملكه ويقضي على ملك الفرس ثم يكتشف أن (شمس النهار) لم تقتل فيعفو عن أبيها كسرى ويعيد السلام إلى الأرض بعد أن يكون قد قضى على الأشرار، ومن طبائع القصص التي كان لا بد أن يخضع لها (ابن الأثير) الجانب الملحمي البطولي واتساع مسرح الأحداث، وهي المنطقة الإسلامية مترامية الأطراف، والممالك المجاورة التي لا تدين بالإسلام، التي تتعاون دوماً ضد البطل لهزيمته وكسره فيقوم هو بفتح هذه الممالك وهزيمة جيوشها وقتل ملوكها، ويمكننا القول بأنها كانت طبائع ملحمية ذات صيغة حضارية كونية تشترك فيها عناصر غير بشرية كالجن سواءً الأخيار أو الأشرار، وتقدم فيها الأحلام والنبوءات خدمات مهمة للبطل، ساعد في خلقها عالمية الدعوة الإسلامية وتعدد جغرافيتها، وهي جميعاً عناصر ثقافية على غاية من الأهمية كان لا بد أن تؤثر في فن ملحمي كالرواية والسيرة، على أن هناك عناصر أخرى لا يمكن إغفالها تسربت إلى العرب عن طريق ترجمتهم للتراث اليوناني، إلا أنه من الصعوبة القول بتطابق الملحمية لدى هوميروس مع الملحمية العربية كما تظهر في السير، فثمة اختلافات عديدة أبرزها التقنية التي جاءت نثراً مضفراً بالشعر وليس نظماً شعرياً خالصاً، كما أن تدخل الآلهة في مصائر البشر لم يعد موجوداً لاختلاف المرجعيات الدينية والفكرية، واختفاء الشاعر الجوال وظهور الراوي المتربع على كرسيه في أحد المقاهي الشعبية سواء شُهر باسمه أو باسم سيرته التي يرويها، ولم يظهر هذا الجوال إلا مع ظهور قصص الفرسان المشاة الجوالين في أسبانيا، ولعل حضور (ابن الأثير) هنا أكثر عمقاً وأشد ثراء في الدلالة، فمن خلاله تحولت السير إلى فنون كتابيه بعد أن كانت شفوية، ولم يعد الراوي بحاجة إلى أن يكون جوالاً، أو حتى حاضراً لتقديم الحكاية، لكن الأسبان والطبيعة الأسبانية ظلت تحتفي بعنصر التجوال والمشي، فإن لم يكن عبر الراوي -هوميروس- فليكن عبر القديس الفارس.