في يومٍ مشحونٍ بالأعمال والواجبات تجاه العمل والأسرة.. أهرب إلى الهدوء.. إلى الحديقة العامة.. في ركن الحي الهادئ.. وبينما آخذ فترة استجمامي المعتادة.. ما بين خضار الأرض وعليل النسيم.. في سكونٍ هادئ.. إلا من أصوات المراجيح حاملة الأطفال الهادئين.. تنساب نسمات عبير الزهور تدغدغ صفاء روحي.. فأجلس مستسلمة للكرسي الهزاز - الأرجوحة الهادئة..
أحتضن حقيبتي متشبثة بما فيها من أوراق مهمة وبطاقات الائتمان المصرفية وجواز السفر.. أتذكر زميلي الذي سافر من يومين لحضور جنازة أخيه الإعلامي في حيفا الفلسطينية/ المُسرئَلة.. (الله يرحمه وجميع أمواتنا!!)
يفزعني صوت طفلٍ يجره والده إلى السيارة.. وأخرى تبكي لحلاوة (مصاص) وقعت منها.. و أم تُلملِم أبناءها الثلاثة المتعلقين بالألعاب.. ألم تكن هذه الحديقة هادئة؟!..
يقع الطفل الذي بجانبي من أرجوحته.. فأنتفض.. وأحاول الوقوف متزنة من شدة تأرجحي.. لكن الأم تصل قبلي وتضمه.. حتى يهدأ.. ينتبه الطفل أنه قد علقت بأصابعه حبة سوداء حين كان ملقى على الأرض.. يخفيها عن أمه.. ويسكت مبحلقاً فيها.. تبتسم الأم مطمئنة وتحاول أخذه معها.. وهو يصر على اللعب في مكانه.. فتذهب الأم لرؤية إخوته في الجهة الأخرى..
في هذه الأثناء كنت في مكاني.. فلم يكن هناك شيء يستحق.. باسترخاء.. وهدوء.. أترك الهواء يؤرجحني.. ناسية - متناسية ذاكرتي.. وكل ما يتعلق بأي شيء أعرفه.. أسأله متخاذلة: (هل أنت بخير؟).. ينزل من أرجوحته مندفعاً إلي ويوقفني - أرجوحتي -.. فيمد يده الصغيرة باسطاً إياها.. لأرى حبة.. زيتون أم عنب.. لا أدري!.. يصدر صوته الناعم: (أليست حبة زيتون! إني أحب الزيتون كثيراً..).
ألجمتني براءة مَن أمامي عن الكلام.. وأخرسني منظر الحبة المأكول - المسحوق نصفها.. فاقشعر جسدي لوهلة حين أدركت تراكم - تزاحم السوس في حفر نواها.. وشدني لون الجفاف فيها إلا من قطرة ندى..
كيف وجد هذه الحبة؟.. ومن أين أتت إلى هذه الحديقة الهادئة؟.. أتحمل الرياح أماكن أحزاننا أحياناً!.. أم أنه قدري ألا أحظى بفترة استجمامي المعتادة في المكان الهادئ المعتاد.. في حين تدفن بعض أجزائي في أماكن أحزاني البعيدة..
لا يزال الطفل يحدق بي منتظراً جواباً.. باسطاً يده الرقيقة.. لا يزال يحمل الحبة المسوسة.. غير آبه بالدود ينخر نواها بلا نزفٍ.. لا يزال يراها حبة زيتونٍ.. وهي للناظرين لا هوية - لا ديار..
وأنا.. ماذا أنا؟.. أسأرد عليه بهدوئي المعتاد!.. أم سأظل ملجومة اللسان تحيرني جرأة ذي السادسة!
أمد يدي في محاولة بائسة.. تريد إنقاذ مَن أمامي من الدود الذي يلهث للانتشار في نعومة حامله.. أرجف خوفاً عليه.. فهل سأقدر؟!
وماذا عن سؤاله؟.. وإلى متى يمكنني تجاهله؟.. وهل سأطيق صبراً احتجازي في هذه الأرجوحة الهادئة.. و إلى متى؟ وماذا حتى لو أردت الهروب - التهرب.. من سؤالٍ بريءٍ متمسكٍ بحبة يحبها..
لا يزال صديقي الصغير.. يبدي أرق مشاعره للفتات المتبقي أمامه.. لا يزال يحمل هذه الحبة - اللا هوية.. في يده.. في الحديقة التي كانت.. هادئة..