من داخل المشهد، قريباً في اللغة والدلالة من الذائقة القريبة للمتخيل الشعري، يطل محمود درويش. وبالرغم من أن الصورة الدرويشية تتسامى معجزة في قصيدته، أو عبارته الشعرية، فإنها تتجدد في هوى الاستغلاق المستحب، وتفتح أفقها على كل احتمالات التأويل والتنوع بتمايز القراء، عدداً واختلاف ذوق وتجربة في معالجة القراءة. ودرويش المُضرب أحياناً عن هذا التفصيل في النثر، فهو عنده جمالية الكلام الصريح، أو هو أفكار أولى لقصائد أتت، أو ستأتي عما قريب. ولا أنسى، كي أُذكِّر، (ذاكرة للنسيان)، أبدع نثر أعطاه درويش في فترة حالكة من التغريبة الفلسطينية بعد احتلال أول عاصمة عربية (حتى لا نقول أول احتلال لعاصمة عربية)، ونقصد بالطبع بيروت 1982، فالكتاب المذكور كان مسودة (مديح الظل العالي)، وما لم يستطع درويش قوله شعراً في (المديح) قاله نثراً في (الذاكرة)، والأجمل أن ما لم يقله شعراً كان لحظة واعية أفرزت تفاصيل مطبخ تلك القصيدة التسجيلية بكل روائح القهوة والتوابل وهواء البحر المستحيل في لحظة مرعبة، فقدت كل تفاصيل زمانها، بعد أن أصبحت واقعاً وضع الشاعر والفدائي، على حدّ سواء، في اللحظة المبدعة، بكل مأساتها التي أضافت إلى التراجيديا العربية مقدمات نضوج الذل العربي، معتقاً ومأساوياً في احتلال العراق، الذي لا ينقصه سوى الفجائعية التي أعقبت الهزيمة غير المتوقعة في عام 1967، ولعل في أوج اكتمال المأساة ما ينذر بقرب حضيضها، أو دخولها في طور سفح الانحدار.
في (مديح الظل العالي) نعلم أية مراحل قطعت قصيدته حتى وصلت إلى مكابدات الشاعر، وأي مخاض سبق القصيدة من شك خلاق وخوف إنساني. ونعلم أي تأسيس أعدم المنطق بعد تجليات (أحمد الزعتر). كما لا يخفى على أي متابع لحوارات درويش موقفه من قصيدة النثر، التي لا يحبها ولا يكرهها، كما أفهم، لكنه لا يقترب منها في كتابته، ولا يفضلها، ولا يعتد بها كحالة إبداعية كاملة التوصيف،.. وهو، على كل حال، لا يستطيع كتابة هذه القصيدة حتى لو أراد.
في هذه المقدمة ضرورة لفك شيفرة واجهة (يوميات) التي وضعها درويش على غلاف مجموعته الجديدة (أثر الفراشة)، فالكتاب ضم جديد قصائد درويش في نمط التفعيلة الذي يحبه ويجيده، إضافة إلى نصوص نثرية قد توحي أنها قصيدة النثر، لكنها تقترب أحياناً من المقولة، أو الموقف، أو النقد المباشر، للحالة الفلسطينية العصية على الوصف في السنتين الأخيرتين، وأقصد في داخل البيت الفلسطيني، وليس في العلاقة مع الاحتلال الصهيوني، التي لم تتغير في تصاعدها أو هدوئها.
وقد ميز الناشر المبدع رياض الريِّس، أو درويش نفسه، القصائد بخط مائل، وفي هذا، إلى التمييز شكلاً، نوع من عدم الاعتراف بتعميم شعرية تلك القصائد، على الرغم من أن بعضها جاء موزوناً على بحور الخليل التقليدية. وفي (أثر الفراشة)، يكتب محمود درويش يومياته شعراً ونثراً، لكن التجاور هنا خطير، إذ يستعير مجازفته من كسر إيقاع الشعر والنثر معاً، والنثر هنا ليس قصيدة النثر التي لا يعرف أحد كيف يميزها عن النثر، مع كل ما قيل من تنظير باهت لإعطائها مشروعية نظرية، غير أنها موجودة في إبداع المبدعين الذي كتبوها دون تنظير، بل ودون ادعاء، فكانت شعراً فقط بسبب حمولتها الجمالية التي تنثر لؤلؤاً، ونرجساً، وبَرَدَاً، وعرائس جنّ. يجد لنا درويش هنا، عذره وعذرنا: (كل نثر هنا شعر أولي محروم من صنعة الماهر. وكل شعر، هنا، نثر في متناول المارة). نعم فالأفكار تتناثر على قارعة الطريق كما يقول الجاحظ، معنىً، وفي صنعة الماهر ما يجعل من الذهب الخام مصوغات، ومن الماس الكربوني هالة ضوء، ومن الكلام والأفكار موسيقى وإيقاعاً، لتكون شعراً أولياً، أو نثراً يتشوّق إلى إيقاع الشعر،.. وفي رؤية نيتشه، كأعظم ناثري الألمانية، نجد حجته في إعلاء شأن النثر والإحساس بدونية النثر،.. لكن درويش العربي الثقافة، في مقام القول هنا، له من ناثري العربية، مع التوحيدي والجاحظ وابن عبد ربه والأصبهاني، بل وابن عمه إدوارد سعيد، كأحد أعلام النثر في اللغة الإنجليزية في عصرنا الحالي،.. له في هؤلاء جميعاً السند المعنوي الذي يعلي من مكانة بعض النثر ما يوازي الشعر مكانة وقيمة أدبية، وله من مجايليه من كبار الشعراء المعاصرين، نزار قباني مثلاً، ما يؤيد أن الجوهر في النوعين من الكتابة هو الإحساس بإيقاع الكلمة، نثراً أو شعراً، وما إكساء الكلمة الإيقاع الخارجي، المتأتي من وجدان اللحظة الشعرية، إلا (كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط، تشع كماسة أو يراعة في ليل الأجناس، هي ما يجعل النثر شعراً!)، لتسقط بذلك المقولة الخديجة (الإيقاع الداخلي) وكأن كلام العربية من اختراعهم حين عجزوا عن صنع أذن موسيقية تميز بين جوهر الشعر وعَرَضه. فالشاعر يكتب حالة شعرية خاصة به، له فيها بصمة تلتبس على الأذن غير الموسيقية، فيراها نثراً، بل ويرى فيها صاحب الأذن التقليدية، موسيقياً، قصيدة عمود، وبينهما نرى أنه يكتب قصيدة التفعيلة المدورة، أو الشبكية (على كل حال يحن درويش من وقت لآخر إلى مناوشة العمود بطريقته (ربيع سريع)، مثلاً)، فلكل شاعر طريقته الخاصة في إنشاء الموسيقى والإيقاع، باستخدام التفعيلات المتاحة نفسها، ويخترع عند اللزوم ما يُرضي الموسيقى استجابة للحظة الانفعالية،.. ولذلك نقول هذا أسلوب نزار، وهذا أسلوب درويش. على أن كثيراً من الشعراء، كبارِهم المشهورين، أو المبدعين غير المشهورين، يتنوعون في الأساليب، داخل اللغة أو الأنماط الموسيقية، فيعجز القارئ غير المدرَّب عن معرفة نسب قصائدهم (الشعر... ما هو؟ هو الكلام الذي نقول حين نسمعه أو نقرؤه: هذا شعر! ولا نحتاج إلى برهان).
بالدخول إلى متن القصائد، يمكننا تمييز الشعر في ما أراده درويش شعراً صريحاً صرفاً، وفرز ما يشتبه علينا من بين الشبهتين. لكن السؤال الكبير، أو الصغير، لا فرق، عن جرأة درويش في وضعية التجاور المواربة (لعل في الجنون الإبداعي للشاعر إجابة ما، ومعه الناشر.. المبدع في لطفه وتواضعه قبل إبداعه الذي فاق قدرة الصحافي فتنازل عن مكانة الأديب،.. هو الجنون المحبب) وقد أتخيل جدالاً جرى بينهما على مادة (أثر الفراشة) فأرى أنهما توصلا إلى صفة اليوميات جمعاً بين صنفي مادة الكتاب، لكن أحدهما أبقى التداخل شبه المتناوب بين (النشر والثعر.. هكذا) حتى تكون اليوميات المكتوبة في صيف عام 2006 وصيف 2007، والمنشورة كمختارات، ودون تواريخ، لتكون شبه تأريخ لحالات الشاعر في (ألعن) فترة تمر بالفلسطينيين منذ هزيمة عام 1948، هو الانقسام الداخلي والاقتتال الأخوي!.. لماذا يشذ الفلسطينيون عن إخوانهم العرب؟.. (أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد من يهزمنا ثانية هزمنا أنفسنا بأيدينا... لئلا ننسى!).
ومما لا يجب إغفاله، أو الدخول فيه تفصيلاً، استرداد إيقاع القصائد، مضغاً للكلمات، بما يفوق التلذذ بطعام نحبه حتى نتمنى ألا نبتلعه، أو قبلة تطيل حمى الشهوة حتى نتوق أن يتباطأ الزمن قبل الوصول إلى النهايات. والتمثيل ينقص من إشعاع الأصل، لكن لا مفر منه هنا للمثاقفة والتحريض على القراءة. في (أعلى وأبعد) نقرأ:
(رطبٌ هواءُ البحر/
عَذْبٌ شَدْوُ عصفورٍ على الشُبَّاك)
هذا ما تبقى من كلام الحلم...
حين صحوتُ، عند الفجر، قلتُ:
لعلَّ لاوعيي البريءَ يفضِّل الإيقاعَ
حين يقول لي:
(رطبٌ هواء البحر
عذبٌ شدو عصفور على الشباك)
لكن، كان وعيي يرشد المعنى إلى الإيقاع
(أو بالعكس)
حين يقول لي:
صعبٌ صعود التلِّ... فاصعَدْ
أعلى وأبعد!)
هو نموذج نموذجي من مكابدة الشاعر الوجودية مع القصيدة، التي تحتل وجدانه، وتنازعه المكان والزمان، في شرط أثيري تخف فيه الروح، ليكتب القصيدة، أو قل: إن القصيدة - القصيدة هي من تكتب الشاعر - شاعرها، فارسها، عاشقها، وخدين ليلها ونهارها.
خذ مثلاً آخر، يفتح باباً على سابقه، مؤيداً، أو معارضاً:
(في الصباح، يقول: كأني حلمتُ بها،
بالقصيدة... أين هي الآن؟
يشرب قهوته شارداً، حاسداً غيره
ويقول أخيراً: هنيئاً له شاعري/ آخري!)
وكفى!