عندما أردد: (بلاد العرب أوطاني) فإن هذه الجملة العزيزة على النفس ليست طارئة على اللسان، بل هي تعويذة قديمة حفظناها صغاراً من ذلك النشيد الخالد الذي رددناه من مشرق أرض العرب إلى مغربها.
نعم، هي أوطاننا، هي مساحتنا الإبداعية، فنحن نتواجد أينما تكون اللغة العربية، وليس هذا شعار سياسي بل هو نبض ضمير، كان قبل الدعوات السياسية والتنظيرات وسيظل بعدها رغم أن المواطن العربي وخصوصاً المثقف قد يصطدم بمبررات القطرية وما يترتب عليه من تأشيرات لا يجري فيها التفريق بين إنسان وآخر وتنسحب أحياناً على مواطني بلد معين دون غيره، أقول هذا والمسألة مازالت في حدود ضيقة، فابن خلدون رغم عبقريته ما كان له أن يمتد بهذا الشكل من تونس إلى الأندلس إلى المغرب إلى مصر إلى سوريا، وما كان للمتنبي أن يكون لو أن هناك من سوّر حركتهما بملء الاستمارات للحصول على حق التحرك، نعم هذه المسألة تؤرق مبدعي العربية وحدهم، ولا تؤرق المبدع الأوروبي مثلاً.. وهي تستحق التوقف عندها في هذه المناسبة أو مناسبات أخرى ما دامت أرقاً يومياً لنا.
إن محدثكم الذي تربّى على ترنيمة (بلاد العرب أوطاني) سيظل يعيشها ويحملها ولن يتراجع عنها، لأن ما أراه يؤكد لي الصواب، ويؤكد لي أنني على حق، فأينما ذهبت فأنا بين أهلي وأحبابي مأسور بالمحبة المغربية والجزائرية والسورية واللبنانية والبحرينية والأردنية واليمنية والعمانية وتميّز في المحبة التي ولدتْ بعد معايشة عشرين عاماً لتونس الأرض والناس وبولد هو الآن في الخامسة عشرة من عمره يجري في دمه ذلك النسخ القرطاجي السومري.
أقول هذا اعتقاداً مني بأننا معشر الأدباء والفنانين جسور محبة بين أهلنا، ونعمل دائماً على ربط الأواصر بكل السبل المتاحة، وأذكر هناك مثال الشقيقة مصر التي قوطعت ثقافياً وسياسياً بعد كامب ديفيد، وتوزع عدد من أبرز أدبائها بين البلدان العربية وأوروبا وكيف عمل المرحوم د.عزالدين إسماعيل بعد تعيينه أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة والآداب على كسر المقاطعة؛ نظراً لعلاقاته الواسعة مع أدباء العربية وبأجيالهم المختلفة الذين درّسهم في الجامعة أو ناقش رسائلهم أو تعرف عليهم من خلال الندوات التي يحضرها. ولم يتردد أحد دعاه لحضور ملتقى ثقافي عربي نظمه المجلس عام 1984م وكنت أحد هؤلاء المدعويين لرفقة رموز العراق الثقافية الأحياء وهم عبدالوهاب البياتي، وجبرا إبراهيم جبرا، وبلند الحيدري، وكنت وقتذاك دبلوماسياً في لبنان ولكنني اتخذت قراراً شخصياً بصفتي أديباً مطلوباً منه أن يسهم ولو مساهمة بسيطة في عمل هو من صلب مهمته ودوره. ولم نأبه لما سمعناه أو كتب عنا، وقد أثبتت الأحداث أننا كنا على حق وكذا فعلنا عند فوز أستاذنا نجيب محفوظ بجائزة نوبل ولبينا دعوة رئاسة الجمهورية المصرية عام 1988 لتكريم محفوظ ولم نأبه كذلك لما أثير من أن موقف نجيب محفوظ المؤيد لكامب ديفيد كان وراء منحه هذه الجائزة. فنحن نؤمن أنه أكبر من كامب ديفيد كلها وأكبر من جائزة نوبل.
وأعتقد جازماً أن تحرك المبدع العربي كقيمة اعتبارية يجب أن لا تمنعه قرارات ومواقف لا علاقة له بها، وأنه طائر غرّيد يجب أن يمارس حرية الطيران ليبدع. مواطنو الاتحاد الأوروبي يقطعون المدن بالطائرات والقطارات وكأنهم داخل وطنهم، وببطاقات الموية.
وهذا حلمنا العربي، إذا كنا لم نستطع أن نحقق وحدة سياسية فنحن نستطيع أن نحقق وحدة تواصل وترابط بيننا هي المطلوبة أولاً قبل أي قرار سياسي فوقي ثبت فشله مراراً.
فأنا لم أحس بأي فرق عند تجوالي العربي من مراكش إلى البحرين، فكلنا عرب وهمومنا واحدة ولغتنا واحدة وهواجسنا واحدة وأسئلتنا واحدة ومحبتنا واحدة.
أذكر هنا عديد الكتابات التي طالبت بربط البلدان العربية بخطوط سكك حديدية، وكانت بلدان المغرب العربي مرشحة لهذا لا سيما وأن تونس والمغرب لهما بنية تحتية بعيدة في هذا المجال، والعمل جارٍ في الخليج العربي لهذا الأمر.
وبعد قرابة الثلاثين عاماً على زيارتي الوحيدة للبحرين، وجدتني أدخل مدينة أخرى، كم حاولت أن أستجمع شتات ذاكرتي لأتعرف على الأماكن الأولى فلم أستطع، حتى فندق (صحاري) الذي سكنته وقتذاك وكان في قلب المدينة وأحد فنادقها الجيدة اختبأ وراء عمارات عالية، ونهضت أبراج من خمسين طابقاً وأكثر.
أما الحدود بين البحرين والمملكة العربية السعودية فكانت تنتهي عند جزيرة حملني إليها صديقي الناقد أحمد المناعي بسيارته الخاصة، لابد من عبور البحر للتوجه إلى هناك، لكن جسراً عظيماً شيّد في السنوات الأخيرة وربط البلدين وسهّل تنقل المواطنين بسياراتهم الخاصة، كما يجري تشييد طريق يربط بين البحرين وقطر فالكويت وهو في طور الإنجاز ومن شأنه أن يجعل وصول مواطني الكويت سهلاً إلى البحرين بدلاً من القدوم عبر السعودية.
فالناس في بلدان الخليج العربي بدؤوا يهتمون بالسياحة الداخلية - داخل الخليج بشكل عام - ومن الصدف أنني وصلت البحرين وكان الفندق يعجّ بالنزلاء الكويتيين وعلمت أنهم جاؤوا ليقضوا عطلة الشتاء تلك الأيام.
وقبل أن أختم هذا الموضوع عليّ أن أحيي خطوة الخطوط الجوية التونسية التي استحدثت خط طيران يربطه بشكل مباشر بين تونس والبحرين ثم الكويت فإلى تونس مباشرة ومرتين في الأسبوع. وبذا لم نعد بحاجة لعمل دورة طويلة لنصل إلى بعضنا عن طريق أوروبا.
ومازلنا نتذكر الدور الذي لعبته الخطوط الجوية العراقية في الثمانينات عندما ربطت بغداد بالدار البيضاء بطيران مباشر يمرّ بعواصم المغرب العربي، طرابلس، تونس، الجزائر.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7902»ثم أرسلها إلى الكود 82244